بعيدًا عن النقد والنقاد والترندات واللايكات، وسياسيي الهربة ومبتكري المجاملات الوزارية، انحنت ذاكرتي لدفتر الرسم أيام المدرسة. كان أحب الدفاتر إلى قلبي، رغم أني لست بارعًا في الرسم.
كنت أفرغ فيه كل شخبطاتي، أجد فيه متنفسًا يأخذني بعيدًا عن المنهج الدراسي.
دفتر لا يغضب المدرسون إذا كتبت فيه أشياءك التي لا يقولونها، ولن يفتشه ولي أمرك.
كنت أشخبط فيه، وأحيانًا أرسم رسمتي المعتادة؛ قليلًا من بحر، بقلم خشبي أزرق، وغيومًا أيضًا بالأزرق الفاتح، وقاربًا صغيرًا بلون بني، وعليه صياد، وبعض الطيور تطير فوق القارب، وأحيانًا لا أستطيع رسم الصياد، فأتركه قاربًا فقط.
لم أكن أعلم حينها أني سأكبر وألتحق بجامعة صنعاء قسم الفلسفة، ويحالفني الحظ لأكون أحد طلاب الفنانة التشكيلية الدكتورة آمنة النصيري.
لو كنت أعلم، لكنت رسمت الصياد.
في 2004، التحقت بقسم الفلسفة، وكان هناك محاضرة مشتركة لمادة أسس الفلسفة، تجمع مستوى رابع علم النفس، ومستوى أول قسم الفلسفة، وكانت أستاذة المادة الدكتورة آمنة النصيري. وبعد انتهاء المحاضرة، قالت: في المحاضرة القادمة أريد طلابًا يحضرون موضوعًا عن علاقة الإنسان بالفلسفة!
لا أدري أية شجاعة جعلتني أغامر وأرفع يدي، مؤكدًا استعدادي لهذا الأمر.
وبعد خروجي من القاعة، لم تسلم نفسي من العتاب واللوم من تهوري هذا!
فاستعنت ببعض تنظيرات أخي اليسارية، وكلام خالي خالد حريري عن الحياة، وبرواية عالم صوفي لكاتب نرويجي لا أريد أن أعود لجوجل لتذكر اسمه. وأخذت مقولة في بداية الرواية تقول: من لا يعرف دروس الثلاثة الآلاف سنة، يبقى في العتمة.
ثم أضفت:
إذا سألت شخصًا جائعًا ماذا تريد؟
سيقول: أريد طعامًا.
وإذا سألت شخصًا يشعر بالبرد ماذا تريد؟
سيقول: أريد لحافًا.
لكن ما هو الشيء الأهم في حياتنا؟ من نحن!
وماذا نريد؟!
وفي اليوم الموعود للمحاضرة، صعدت إلى منصة القاعة بجسدي النحيل الهارب من عصا مدير المدرسة، إلى ريشة الفنانة آمنة النصيري.
بعدها أصبحت صديقًا للفنانة، وأهدتني كتابها.
وعرفت إلى أين تعود تلك المرأة التي تحدثنا في الفلسفة!
تعود لتسمم القبح بالألوان، وتحاكمه بلوحة فنية، وبقلب أحدهم يقول: "والله معانا بلد جميل".
تعلقها.
وبابتسامة شخص حزين تمزج الألوان والعصور والطرقات والزمن.
ليقول القادم من بعيد:
إنها لوحة لآمنة النصيري!