من أيام قليلة ماضية طرح أحد الأصدقاء العاملين في المجال الصحافي والثقافي عليّ سؤالًا، يتمثل في السؤال التالي: "إلى أين سيذهب اليمن في حال فشلت الأطراف المتصارعة في استغلال فرصة تحقيق السلام الراهنة؟ ما هو المصير؟ وماذا يعني تفويتهم هذه الفرصة التي تحظى بدعم إقليمي ودولي وأممي؟".
سأبدأ الرد بمقدمة "نظرية"، أو مقولة ماركسية وردت في كتاب لينين "إفلاس الأممية الثانية"، يقول فيه حول الثورة، والوضع الثوري، ما معناه: من شروط الثورة، قيام وضع ثوري، على أنه ليس كل وضع ثوري يقود إلى الثورة، لأن هناك جملة شروط ذاتية بها تستكمل الثورة معناها، أو ينتقل الوضع الثوري ليتحول إلى ثورة.
وفي تقديري، إن أوضاعنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والوطنية الراهنة قد وصلت إلى حد الحاجة السياسية الضرورية، والتاريخية، لإحداث تغيير عميق في بنية النظام السياسي كله (شمالًا وجنوبًا)، والأهم تقديمنا معالجات ورؤية نقدية معاصرة لمفهومنا للدولة، باعتبارها دولة للمواطنة الكاملة، لا تصلح معه الترقيعات أو الحقن المهدئة، بخاصة وأننا نعيش إلى جانب الوضع الثوري (أزمة سياسية ووطنية مستحكمة)، وواقع انقلابات متعددة الأسماء على الدولة الشرعية، أو التي كانت شرعية. فمنذ ثماني سنوات والبلاد تعيش حالة وواقع قمع وإرهاب سياسي كارثي وفاضح، على الأصعده كافة: من السياسة، إلى الخدمات العامة، إلى مصادرة المرتبات، إلى الاقتصاد، إلى تدهور سعر العملة الخرافي، إلى التعليم، وإلى الصحة، حتى المأساة الإنسانية، التي صارت حديث التقارير الأممية! وهذا الوضع يتحمل مسؤوليته السياسية والفعلية المباشرة الأطراف الداخلية، والإقليمية، بعد أن ارتهنت الأطراف الداخلية للخارج، وبعد أن استقدمت (الخارج) إلى داخلنا.
إن من ينصبون أنفسهم حملة لراية شعار "السلام"، وينتدبون أنفسهم بأنفسهم كرعاة لمبادرات سلاموية، هم أساس إعلان الحرب، والسبب الأساسي لاستمرارها حتى اللحظة. فمتى كان مشعل النار (الحرائق) إطفائيًا؟!
مشكلتنا أن الذين أوكلنا إليهم حل المشكلة، هم أنفسهم المشكلة، ولذلك يتحدثون عن حل للمشكلة من أبراجهم العاجية، وبعد أن يأتي (الكفيل/ السفير)، ليضعهم في صورة نتائج مفاوضاته مع الطرف اليمني الآخر، ومن هنا هم جزء من المشكلة، وليس من الحل.
إننا في وضع ثوري، ولكن بدون أداة تنظيمية ثورية (غياب للطبقة السياسية الثورية المساعدة في دفع حركة التاريخ للأمام)، لأنه ليس كل وضع ثوري -كما سبقت الإشارة- يقود بالضرورة إلى الثورة. صحيح، أن كل شروط وملامح وعلائم الوضع الثوري حاصلة وقائمة على الصعد كافة: السياسي والاقتصادي والاجتماعي والشعبي والوطني (نتيجة التفريط بالقرار السياسي الوطني، وتدمير السيادة الوطنية)، ووضع جماهير الشعب الواسعة المقهورة والمغلوبة على أمرها تحت طائلة الخوف من الآتي، وفي حالة من الإذلال والتجويع لا سابق لها في تاريخ اليمن الحديث والمعاصر، في الشمال والجنوب، لكن يبقى "البعد الذاتي" السياسي والتنظيمي هو الأضعف (الغائب)، في كل المعادلة السياسية الجارية.
إن مجموع الشعب/ السكان، في الجنوب والشمال يعانون ويعيشون حالة قهر وإذلال وحصار ومصادرة لكل ما يمس حياتهم الخاصة والعامة، قهر فائض عن القدرة على احتماله، والتصدع والتمزق في بنية النسيج الاجتماعي والوطني، وصل إلى منتهاه، لم تجد معه حالة الغضب الشعبي المكبوتة والكامنة، القنوات للتنفيس وللتعبير عن كل ما تقاسيه وتعيشه، بسبب الإرهاب السياسي والديني/ المذهبي.
هي حقًا أزمة سياسية واقتصادية ووطنية ذات طابع بنيوي شامل، من القمة السياسية المأزومة، إلى القاعدة الاجتماعية الشعبية المقهورة.. الذين في القمة في الداخل لم يعد بمقدورهم الاستمرار في الحكم بالطريقة القديمة، إلا -مع الأسف- بدعم الأطراف الخارجية؛ ومن منهم في القاعدة، يصعب عليهم الاستمرار في تقبل العيش في هكذا حياة. والذين في الخارج (الكفلاء)، هم فعليًا من يديرون دفة لعبة الحرب، وبرضا وموافقة الأطراف الداخلية. وإلا، كيف نفهم ونفسر استدعاء السعودية كل "النخبة السياسية" والعسكرية والحزبية، إلى "الرياض" في أكثر من مرة، لجعلهم يبصمون على ما يريده الخارج، وآخرها إعلانهم الموافقة على تغيير رئيس الدولة المنتخب.. بصورة استفزازية، واستبداله بشكل كرتوني، من الحكم، وفاسد، وبدون علمهم حول كل ما يحصل، وبدون مشاركتهم في اتخاذ ذلك القرار. هذا كمثال عابر، لأن كل ما يجري هو عبارة عن امتهان وتمثيل بالإرادة السياسية اليمنية، وبموافقة ورضا الأطراف الداخلية! وفي مثل هكذا أوضاع، ليس هناك من فرصة سياسية واقعية للحديث المجرد عن الحوار، ناهيك عن السلام.
لن أدخل في مناقشة التفاصيل الإجرائية والتنفيذية للمفاوضات السلاموية، لأنها تفاصيل زائدة عن الحاجة، ولا تقول شيئًا له علاقة بالسلام المرتجى.. تفاصيل تأتي لتأكيد المؤكد، وهو أن اليمن واليمنيين ومصالحهم السياسية والواقعية والتاريخية والوطنية، خارج معادلة المفاوضات.
وسأترك ذلك للأيام القريبة القادمة لتؤكد أننا أمام لعبة سياسية سلاموية كاذبة، ومن أن الحرب مستدامة وعلى حساب الدم اليمني، والأرض والمصالح اليمنية.
إن كل ما يجري يقول لنا، إن الغائب الأعظم هو "العامل الذاتي الثوري"، الطبقة السياسية/ النخبة السياسية، التي -مع الأسف- ارتهنت للخارج في كل شيء، حتى صارت الحلول لمشاكلنا السياسية والأقتصادية والاجتماعية والمالية، ويبدو حتى العائلية، تأتينا من الخارج.
فهل هذا الوضع والواقع ممكن أن يفتح أية نافذة واقعية لممارسة السياسة المستقلة، ولإنجاز مشروع للسلام؟!
حقًا، لقد أفقدت النخبة السياسة المأزومة الوضع الثوري من "عصبيته السياسية"، والاجتماعية، والوطنية، هذا إذا استعرنا من ابن خلدون مصطلحه أو مفهومه حول "العصبية"، حين تتحول إلى قوة سياسية محركة.
إن النخبة السياسية المأزومة جمدت الوضع الثوري عند حدود مصالح الخارج، وفتات مصالحهم الخاصة الصغيرة!
إن هذا الوضع السياسي المأزوم الذي نحن فيه، إنما يعكس جوهر هذا الخلل السياسي البنيوي الذي نعيشه في صورة العلاقة المختلة (التابعة)، بين الداخل والخارج، ومع استمرار هذه العلاقة المأزومة والمختلة لصالح الخارج، وفي غياب كلي للداخل السياسي والوطني اليمني، من الصعب أن تنتج حلول لمشاكلنا، حلول تمتلك حتى الحد الأدنى من شروط الاستمرارية.
وهذا الحديث الذي أسطره في هذا المقام، سبق أن كتبته أكثر من مرة، وفي مناسبات مشابهة لما يحصل اليوم.. هي اتفاقات، أو بتعبير أدق، صفقات وتسويات سياسية خارجية ناقصة بين الأطراف الخارجية، وعلى حساب داخلنا اليمني، وستؤكد الأيام القريبة جدًا جدًا صحة أو عدم صحة ما نذهب إليه، فلا تحتاج إلى زمن طويل لاستيعاب وفهم هذا العبث بحياة ومستقبل اليمن واليمنيين.
ثم كيف يكون الحديث عن السلام، والحرب على أشدها في أكثر من "جبهة"، ونيرانها تتسع في أكثر من مكان في البلاد، والاستعدادات الكلامية، والعسكرية قائمة ومستمرة في أكثر من موقع عسكري؟!
إنه السلام الذي يدق أبواب الحرب بقوة، معلنًا استدامة الحرب لمدى غير معلوم!
إنهم، مخرجو المسرحية "السلاموية"، يدركون أن ما يحصل لا علاقة له بالسلام، على أن المهم أن يقتنع البعض من السلاميين بذلك، ولا يعيشوا وهم وسراب السلام الكاذب.
إن الشيء الأهم هو أن يحظى السلام بدعم الداخل (أصحاب المصلحة في السلام)، ويكونوا حاضرين في قلبه، ومشاركين في صناعة ذلك السلام، وأن يأتي سلام يلبي الحاجات الملحة لاستقرارهم، وتنمية حياتهم الإنسانية، وفي مقدمتها استعادة الدولة المدنية الديمقراطية.
إن أول شروط السياسة والسلطة والسلام، هو وجود مكان ثابت مستقر "عاصمة" للحكومة والرئاسة، فضلًا عن شرط الاستقرار السياسي والاقتصادي لإمكانية الحياة الآمنة للناس العاديين، حيثما كانوا، ناهيك عن وضع مستقر وآمن لرجال الدولة!
فحين يكون الوزير قلقًا، والقائد العسكري خائفًا على حياته، ورجل الأمن غير آمن، والمواطن فاقدًا للمواطنة، ومهددًا في سكنه، وفي حالة موت سريري، من شدة الفقر والمرض والجوع، فعن أي سلام يتحدث هؤلاء؟!
ومن هنا قناعتي بأن اليمن، بمثل هذه الصفقات "السلاموية" الخارجية، سيذهب ليس إلى معانقة السلام، بل إلى المجهول سياسيًا ووطنيًا، لأن المعلوم الوحيد في كل هذه الصفقات، إنما هو تحقيق مصالح الدول الخارجية.
وفي استكمال للإجابة على السؤال، فإنني لا أرى في كل ما يحصل باسم أكذوبة "السلام" الفارغ من المعنى، لا أرى إلا، وسوى فرصة لتحقيق الخارج مصالحه السياسية والاستراتيجية على حساب مصالحنا السياسية والوطنية، وبموافقة وكلائه في الداخل.
إن الفرصة الحقيقية للسلام، بمعنى الفرصة السياسية والوطنية لنا كيمنيين، لم تكن حاضرة وقائمة طيلة الثماني السنوات من الحديث الإعلامي والإعلاني عن السلام، والسبب أن السلام السياسي والوطني اليمني بمعنى الحق في الحرية، والعدالة، وفي امتلاكنا قرارنا السياسي الوطني، وصولًا إلى قيام الدولة الوطنية المدنية الحديثة، واستكمال بناء الجيش الوطني، بعقيدة قتالية وطنية، إن كل ذلك، ليس في مصلحة جميع الأطراف التي فرضت نفسها وصية على اليمن، وانتدبت نفسها زورًا راعية للسلام، في غياب للمكونات السياسية الوطنية، أو من يعبر عنها على الأقل، ممن هم خارج معادلة السياسة والحرب الجارية.
إن السعودية والإمارات وإيران ووكلاءهم في الداخل يتعمدون أن يجعلوا الحرب حالة مستمرة تتخللها هدن حربية مؤقتة، أي لا تجعل هناك نصرًا محققًا ولا هزيمة نهائية للحرب في اليمن بين كل الأطراف، ممنوع حسم الحرب بالمطاولة، ولا بالمناجزة السريعة الخاطفة.
حتى يتكرس ويترسخ واقع التمزق الاجتماعي والانفصال السياسي بين قوى المجتمع السياسي في البلاد، تصل معه الأزمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية إلى ذروتها الإنسانية، والعمل لتحويل المشكلة اليمنية بعد كل هذه المطاولات التي يصاحبها موت يعصف بمعظم فئات وطبقات المجتمع، يتم من خلال تثبيت وتكريس مصالح الخارج على حساب الداخل، وهذا عمليًا ما يتحقق في صورة المبادرات السلاموية الكاذبة.
إذا كان هناك من إيجابية سياسية وعامة من هذه المبادرة، فإن هذه الإيجابية تدخل ضمن العلاقات الدولية، في صورة حضور الصين في قلب هذه المبادرات، أي، في صورة اختراقها (الصين)، لمنطقة استراتيجية محظورة ومحتكرة للغرب (أمريكا، وأوروبا).. هو نصر سياسي للصين يؤكد توسع مجالها السياسي والاقتصادي، قد يسهم في التمهيد -على المدى البعيد- لدخول العالم مرحلة العالم متعدد الأقطاب.
صفوة القول:
إن لعبة أكذوبة السلام التي يطالعنا بها الخارج (الكفلاء)، وهم فعليًا الجماعة القوية النافذة والمستفيدة من استمرار الحرب، لن تقود البلاد سوى إلى القضم التدريحي مما تبقى للسلطة والدولة من معنى في حياة اليمنيين.. كان حديثنا إلى قبل عدة سنوات هو الدعوة للحفاظ على بقايا سلطة، وآثار دولة، والتمسك بالسيادة الوطنية على الأرض اليمنية غير منقوصة، أما اليوم، وبعد الحديث عن سراب السلام (الهدن الحربية)، فنحن على مشارف الزوال النهائي لمعنى السيادة، ولمعنى النظام السياسي، والدولة على الصعد كافة، تحت شعار "السلام وكفى"! على منوال "الوحدة وكفى"!
إن أي سلام لا يحل المشكلة العسكرية والأمنية، ومشكلة المليشيات، وانفلات السلاح، إنما هو السراب على الحقيقة.