سُمع صراخ الجارة حتى نهاية الحارة وهي تصبُّ لعناتها على من تعرف ومن لا تعرف، فقد خرجت إلى "الحوش" كعادتها عصر كل سبت لتنشر الغسيل، واستوقفتها رائحة قوية أزكمت أنفها، وقلبت معدتها في لحظات، بحثت عن مصدر الرائحة الكريهة، ولم تصدّق في بادئ الأمر ما تراه، رأت قطعاً بُنّية مخروطية الشكل تتوزع بشكل عشوائي ما بين باب بيتها وحبال نشر الغسيل.
انفعلت ولعنت بأعلى صوتها، حتى احمرّ وجهها وانتفخت عروق رقبتها، وضعت سلة الملابس بحذر شديد على الأرض وأخذت تمشي قفزاً بين القطع البنية وكأنها تمشي في حقل ألغام! جمعت ملء كفيها حفنةً من التراب الجاف، وقامت برشِّه على الأذى وهي تشتم وتسب بأقذع ألفاظ السباب جيرانها الذين لا يعرفون كيف يربُّون أولادهم، لم يعد لديها أولاد صغار، أصغر طفل لها عمره عشر سنوات، وهذه لا بد من أنها فعلة طفل صغير في السن يسرح ويمرح بلا حسيب ولا رقيب، لم تتوقف عن التمتمة والشتم ومن شدة غيضها وحنقها لم تنتبه إلى كومة بنية زلقة لم تغطَّ بالتراب، داست عليها ووقعت على الأرض في مربع القطع الحلزونية الطرية.
جرى تحقيق في العمارة من يكون يا ترى الطفل أو الطفلة صاحب الفعلة الغير نظيفة، لكن الجميع أكدوا أن أبناءهم لا يمكن أن يقوموا بفعلة مثل هذه، ودون تخطيط أتفق جميع من في العمارة بأن الفاعل لابد أن يكون طفل من خارج العمارة، ربما دخل للبيت أثناء نسيان الباب مفتوحاً أو موارباً، وقام بفعلته الشنيعة هذه، ودارت حرب حامية الوطيس واتهامات وتراشقات متبادلة عن نسيان باب العمارة مفتوحاً لمن هب ودب.
تحول مسير النقاش إلى هذه النقطة وتجاهل النقطة الأولى، جعل الدم يغلي في عروق صاحبة العمارة، فقد ضاعت قضيتها الأصلية، لهذا لم تتوانَ عن التعليق بصوتها الهادر:
- يعني من فعلها؟ الرجل صفر*!
بعد أسبوع على الحادثة كان جميل المستأجر الساكن في الدور الثاني شقة رقم 2 آخر من نام في البيت وأول من استيقظ، منذ فترة ومواعيد نومه متغيرة، يجلس أمام شاشته المحمولة في الليل بعد أن ينام جميع من في البيت ويستيقظ باكراً ليتجهز للذهاب للعمل، خرج من غرفة النوم وعبر الصالة في طريقه إلى المطبخ ليعد لنفسه شيئاً يأكله قبل أن يغادر البيت، لكن رائحة الصالة كانت لا تطاق، تفقد دورة المياه إذ يمكن أن يكون هناك مشكلة في المرحاض، لم تكن الرائحة تأتي من هناك، بل كانت تشتد كلما اقترب من الطاولة التي يرقد عليها المحمول، كان المحمول في مكانه لم يتحرك قيد أنملة، إلا أنه صار يحمل على سطحه الفضي اللامع بقعة بنية مخروطية الشكل، متماسكة وسيئة الرائحة.
توجهت أصابع الاتهام نحو أمين ذو الأربع سنوات، فهو الوحيد في البيت الذي يمكن أن تراودهم الشكوك بشأنه، فأخته الصغيرة سناء عمرها ستة أشهر، أما أخته الأكبر منه بست سنوات واسمها سماء فهي غاية في الوداعة والأدب، ولا يمكن أن تقوم بفعلة مثل هذه، أما الأخت الأكبر دولة، فلم تكن محور شك.
لم يحير أمين جواباً بل على العكس من ذلك، تحت تهديدهم له ومحاولتهم استنطاقه بالقوة، زادت تأتأته ولم يقل كلمة واضحة، تعثره في نطق الكلمات تعود لشهور الحرب الأولى عندما كان القصف الليلي على أشده، والكهرباء مقطوعة تماماً، وضوء الصواريخ يشق القلوب قبل أن يُسمع صدى انفجاراتها ويطير بالعقول..
حينها كان أمين يدخل في نوبة بكاء حادة، ويظل يرتجف لوقت طويل، بعد ذلك أصبح يتأتئ بشدة ولم يعد يتحدث بفصاحة كما كان، بعد مرور عام على الحرب ونزوحهم إلى أماكن أكثر أماناً، تحسنت حالته قليلاً، إلا أن مجيء أخت جديدة جعلته يعود من جديد للتلعثم في الكلام، ورجح الجميع أن سبب ذلك غيرته الشديدة من المولودة الجديدة، ولكن الأمر أصبح أكثر تعقيداً، لأنه لم يعد يتكلم إلا فيما ندر كلماتٍ بسيطة في أوقات متفرقة، قلة الكلام صاحبها الكثير من الحركة والأفعال الغريبة.
ما كان يشغل بال أبويه ليس فعلته بحد ذاتها، ما يشغل بالهما هو أن لا يعرف أحد أن أمين هو من قام بتوسيخ مدخل باب صاحبة العمارة، لن ينالهم منها طيب، وربما طردتهم من البيت شر طردة، أتفق الأبوين على موقف واحد متكاتف، وصارا يتهامسان ويخططان وهذا التقارب الودود كان مفقوداً بينهما منذ الحمل الأخير بطفلتهما الأخيرة سناء.
لم تمر أيام كثيرة على حادثة المحمول، حتى صنع أمين حادثة أكثر إزعاجاً لكن هذه المرة في دولاب ملابس أمه، تحديداً على درجها الداخلي الذي يخفي في داخله درجاً سرياً تحتفظ فيه بأساورها الذهبية، جن جنون الأم ودون تفكير أخذت تبحث تحت الوسائد عن عصى الرمان التي تحتفظ بأشباه لها في أماكن كثيرة في البيت، فوق الثلاجة، داخل الغسالة، تحت مفرش الطاولة، خلف التلفزيون، في المزهرية الكبيرة، جوار الأريكة، كانت من شدة غيضها من أفعاله تضربه بقسوة تندم عليها لاحقاً، في لحظة غضبها تمسك بعصى الرمان وترفع ذراعها إلى أقصى اتساع لها وتهوى بها على جلد أمين المسكين الذي يسمع صراخه بعد دقائق من لسعة العصى إذ يسوَدُّ وجهه وتهطل دموعه ويبكي من شدة الألم في الدقائق الأولى بصوت مكتوم
دارت في البيت كله تجمع عصيّ الرمان، ثم تذكرت فجأة أنه ليس في البيت، بل في الروضة، وتساءلت متى فعل فعلته الغريبة هذه، ولماذا في هذا المكان بالذات؟ تحاملت على نفسها لتنظيف ما تلطخ ولكنها لم تتمكن من مقاومة شعورها القوي بالغثيان ركضت إلى دورة المياه واستفرغت كل ما بجوفها.
دولة الأخت الكبرى لأمين فتاة مراهقة ومتحكمة في بقية إخوتها، لها سلطة توازي سلطة أمها، لكن الفارق أن سلطتها غير معلنة ولا مكشوفة، تمارسها سراً عليهما، ولا يجرؤ أحد أن يشتكي منها، لأن عقابها أشد إيذاء من عقاب أبويها، تجعل سناء تنظف لها غرفتها وتذهب بها في مشاوير لا حصر لها للبقالة لشراء أشياء لها، وحتى أمين ذو الأربع سنوات لا ينجو من استبدادها به، يرتعد أمين خوفاً من دولة، ومع ذلك لم تنجُ من براثن عاصفته اللولبية، فقد وجدت أدوات التجميل الخاصة بها وقد اختلطت مع برازه المتماسك، كان مشهداً قاسياً للغاية فقدت بسببه وعيها وسقطت على الأرض.
لم يعد الضرب والصفع والركل ولسعات عصى الرمان وصوتها المخيف عندما تهوي من الأعلى يجدي نفعاً مع أمين، بل صار أكثر تصلباً وعناداً وتفنناً في اختيار أماكن لا تخطر على البال يمارس فيها شغفه الخاص، الخشية من أن يُكشف جعلت أبويه يقرران أن يمنعانه من الذهاب إلى الحضانة، ومن شدة ما ضاقت عليهما، قررا أخذه إلى عيادة الإرشاد الأسري والنفسي لطلب الغوث ومعرفة سبب تصرفاته الغريبة، وعزوفه الكلي عن الكلام.
كانت عيادة الإرشاد الأسري دافئة بألوانها البرتقالية والخضراء ومليئة بالألعاب والوسائد الصغيرة الرطبة على شكل نجوم وقلوب وهلالات، حتى رائحة المكان كانت منعشة، أطلت الطبيبة المختصة تسبقها ابتسامة واسعة فشعر الجميع براحة مفاجئة.
شرح الأب ما يفعله أمين وكان يضم قبضتيه من التوتر وكأنه في حلبة ملاكمة يسدد لكمات واهية لخصم غير مرئي، أما الأم فكانت تتكلم وتنقل عينيها بين زوجها والنظر في الأرض، كانت تتحدث بسرعة وتشهق وهي تأخذ النفس، ترد على أسئلة الطبيبة المتمهلة وهي تغالب الدموع أن تتساقط على وجهها.
لم تتغير ابتسامة الطبيبة بل لمعت عينيها بتحدي خفي، وطلبت أن تجلس مع أمين فقط، حذرها الأب على الفور من أنه قد يقوم بألاعيب كثيرة فهو طفل لا يؤمن جانبه أبداً لكنها أعطت أمين قطعة شوكولاتة صغيرة، وطلبت من الجميع بلطف شديد مغادرة الغرفة فقد بدأت أول جلسة.
أجلست الطبيبة أمين على كرسي صغير مناسب للأطفال وجلست إلى جواره على ركبتيها، رتبت له الصلصال والألوان والأوراق ولاحظت أنه لم يفتح قطعة الشوكولاتة المغلفة بغلاف أحمر زاهي، فأحضرت له قطعة أخرى مغلفة بلون أزرق، رص أمين قطع الشوكولاتة بجوار بعضها والأقلام والصلصال كلها في نسق واحد، ونزل من على كرسيه الصغير ومشى نحوها، توقف قليلاً متطلعاً في وجهها بصمت، مدت إليه يديها، فتعلق برقبتها، ضمته إلى صدرها، تنسم عطرها الخفيف الذي يشبه الحليب والعسل وسرعان ما غرق في النوم.
في البيت لم يستجب أمين عندما حاول الجميع معرفة ما حدث مع الطبيبة، ولم يبح بما يجول في نفسه سوى لأخته سماء، وشوشها بكلمتين نطقهما بالكاد:
- ددددكككتورة ح ح ح حلوة
حل موعد الجلسة التالية أحضرت الطبيبة مزيداً من الصلصال والألوان وقطع الشوكولاتة الملونة، لعب أمين وأكل قطع الشوكولاتة، وعندما انتهت الجلسة كان يبدو منتعشاً، سأل والده الطبيبة: هل تشعرين أن هناك تحسن؟، رسمت ابتسامتها العريضة ملء وجهها وقالت له:
- ما يزال الوقت مبكراً على معرفة ذلك
وهكذا مرت عشرة أيام توقف فيها أمين عن التغوط في أرجاء البيت، وعاد وجهه يتورد وعينيه تلمع، وبدأ يتحدث مع سماء وسناء فقط، لكن الأب لم يكن راضياً فالطبيبة لم تقل شيئاً بعد عن تشخيصها لحالته، يريد شرحاً واضحاً للمشكلة، برغم أن الطبيبة أوضحت له منذ البداية أنها تحتاج فترة أطول على الأقل شهراً كاملاً لتستطيع أن تقول تشخيصها لحالته
في العشرين يوماً التي تلت، لعبت الطبيبة لعبة رسم الوجوه مع أمين، طلبت منه أن يرسمها وبالمقابل سترسمه، رسم أمين دائرة كبيرة تملأ الصفحة ولونها باللون الأصفر، ضحكت الطبيبة وسألته مندهشة:
-هذه أنا؟
هز رأسه بالإيجاب وقال
- أيوه أنتِ
قبلت الطبيبة خده وأخذت لاصق من درج مكتبها وعلقت رسمه أمين على الجدار
ثم قالت له:
- أنظر هذا أنت، خذها معك وعلقها في غرفتك
كانت قد رسمت له وجهاً دائرياً مبتسماً
ثم أضافت:
-الآن نرسم أشخاصاً آخرين، ما رأيك أن ترسم بابا؟
فرك أمين خده، وتطلع فيها بعبوس، وأمام تكرار طلبها بصوت لطيف، أخذ قلماً بنياً وبدأ يرسم، غامت عينيه وقد قفزت ذكرى إلى ذهنه، كانت أمه قد وضعت طفلتها الصغيرة سناء، وكان أبوه يتكفل بنشر الغسيل في حوش العمارة كل يوم، لم يكن يسمح له بالخروج معه، كان يبكي كثيراً عند باب الشقة حتى يعود أباه، وفي أحد الأيام نسي أباه أن يغلق باب الشقة جيداً، استطاع أمين الخروج ولحق به إلى فناء الغسيل الذي كان يعج بالملاءات المنشورة، همس بصوت خفيض وقد شعر بالخوف
- بابا
خُيّل إليه أنه لمح أباه لكنه لم يكن وحيداً، كان هناك شبح امرأة قريبة للغاية منه، أطبقَت الملاءات على أبيه وشبح المرأة، زاد شعوره بالهلع وفجأة بكى بأعلى صوته
- بابا بابا بابا
فجأة أمسكت به يد أبيه فيما نزلت اليد الأخرى على خده بلطمة قوية أخرست بكاءه، لمس خده مرة أخرى وهو يتذكر وجه أبيه المتقد كالجمر وحبات العرق التي تنهمر على جبينه.
طلب أمين من الطبيبة أن تعلق صورة أبيه التي رسمها إلى جوار رسمته، وقد فعلت.
في يوم آخر وبعد أن لعبا بالصلصال وصنعا نجوماً طلبت الطبيبة من أمين أن يرسم أمه، سحب ثيابه العلوية وأدار ظهره لها لترى آثار لسعات العصا، رغماً عنها فاضت الدموع من عينيها، وهي تضم وجعه إلى قلبها، وتربّت على ظهره الغض المتأذي من لسعات العصي، بعد ذلك أخذ القلم وبدأ يرسم، تذكر عندما أخذ نقودأً من جيب والده حينها نهرته أمه بقسوة وأخذت عصا الرمان وهوت بها على جسده وهي تسب وتشتم، يومها تبول من شدة فزعه على نفسه، لم يعرف لماذا ضربته، لقد فعل ما يراها تفعله كل يوم.
في اليوم قبل الأخير طلبت الطبيبة من أمين أن يرسم أخته الصغيرة سنا وأختيه الأكبر منه سماء ودولة، رسم بسرعة والابتسامة لا تفارق وجهه اللطيف زهرتين جميلتين إحداهما حمراء اللون، والثانية وكانت أصغر قليلاً زهرة وردية اللون، وقال لها: هذه سماء وسناء.
أما دوله فقد أخذ وقتاً أطول في رسمها، تذكر عندما كانت سماء تلعب في غرفة أختها دولة ولبست قلادتها، وأخذت تتقفز بفرح أمام المرآة، حينها دخلت دولة للغرفة وعندما شاهدت قلادتها على صدر سماء، صرخت في وجهها وشدتها من شعرها وضربتها بعنف، يومها تخبأ تحت السرير وكان يرتجف من الخوف على سماء التي بقيت تبكي لوقت طويل
في اليوم الأخير طلبت الطبيبة من الأب والأم أن يأتيا للعيادة ويحضرا معهما دولة فقط.
كانت الأم قلقة والأب متحفز لسماع شرح الطبيبة فيما لم تخفِ دولة نظرات الازدراء.
قالت الطبيبة أنها توصلت بشكل تقريبي إلى سبب تصرفات أمين الفترة الأخيرة، أشارت إلى ثلاث لوحات ورقية معلقة بلاصق شفاف على الجدار، كل اللوحات كانت تحمل نفس الرسمة، شكل هرمي مخروطي بني اللون، واحدة تخص الأب والثانية تخص الأم والثالثة تخص دولة
قالت الطبيبة: ما يقوم به هو أن يوصل إليكم رسالة تحمل كلمة واحدة فقط "أنتم خ ر ا ء".
أقرأ للكاتبة أيضاً: امرأة أخرى!
أمين - قصة قصيرة
2022-12-27