صنعاء 19C امطار خفيفة

قلب ثور مخصي

2008-06-26
قلب ثور مخصي
قلب ثور مخصي - مروان الغفوري
لم نكن بحاجة إلى قراءة قصة صالح سميع، ضحيّة الطبّال والقوارح، لنتيقّن من ميلان البخت اليمني، ونقوّي بصيرتنا السالبة بخصوص الهيئة العليا لمكافحة الفساد. وحين أقول "نحنُ" فأنا أقصد نفسي، مبدئيّاً. فقد سبق وذكّرتُ الكثيرين بمقولة آينشتاين: إننا لا يمكن أن نحل مشاكلنا بنفس العقليات التي أنتجت هذه المشاكل، ولم تكن هذه المقولة لوحدها كافية لنتيقّن من ميلان بختنا، أيضاً. لذلك فقد كان كثيرون بحاجة إلى قراءة قصة صالح سميع، التي لم تكن ضرورية لكي تقوي إيماننا بأن الهيئة العليا لمكافحة الفساد ليس لها من اسمها نصيب. ومبدئياً: أقصد إيماني الشخصي.
في وقت سابق، عندما لم يكن من الإحساس بالخيبة والمتاهة بد، كتبتُ بأعلى صوتي: مدد يا شميلة، مدد. ولكن يبدو أن شميلة ليس هو "أبو الحربة" ولا "سريع الندهة" كما يروي الأقباط عن بطلهم الشهيد "مار جرجس" الذي أنقذ فتاة من فم التنين.. ولذلك فقد فعل شميلة معنا، نحن المريدين، مثلما فعل غيره. تخلّى عنّا في منتصف الطريق والتزم طريق رحلته فوق شملته التي تجري على الماء، من عدن إلى المتاهة، وقيل: إلى الحج.
البارحة، أو لنقل: بارحة هذا اليوم، كنتُ أبحث عن ماورائي آخر، سريع الندهة، ينقذنا من الورطة التاريخية التي صنعتها لنا كل الأمجاد العظيمة: الثورة، الوحدة، الديموقراطية.. كل هذه الأمجاد هي التي صنعت النكسة اليمنية المزمنة. قرأتُ عن العذراء التي حوّلت امرأة مصرية رفضت أن تقرضها "رحاية" إلى سلحفاة، تحمل رحى فوق ظهرها. قلتُ في نفسي: يا عذراء، يا أم السيد المسيح.. مدد، مدد، ضعي فوق ظهورهم رحى وفي بطونهم سلاحف. ومثل شميلة، لم تفعل العذراء شيئاً، ولم تتصرف حيال الخاطفين الذين وضعوا الرحى فوق صدورنا وركبوا عليها باسم الثورة والوحدة، وباسم كل الأسماء. وعزوتُ موقف العذراء السالب تجاه نكبتنا لخلق مبدئي لديها يرفض التدخل في مشاكل أبناء سيدة أخرى، خمّنتُ أنها بلقيس.
خطر لي هاجس غريب.. إما الخضر، الذي وجد جداراً يريد أن ينقض فأقامه، ليقيني بصلاحه النفسي والرسالي، ونقاوة عرقه السلالي.. أو اليهودي التائه. قلتُ للخضر: هنالك ملك ظالم يأخذ كل سفينة غصباً، يا إمام. بيد أن الخضر كان قد دخل في التاريخ إلى غير رجعة. أو يبدو أننا لم نستحق وجع قلبه. وفي لحظة شديدة الوطأة سرّبتُ لنفسي إحساساً كئيباً: ماذا لو أن النبي موسى وصديقه يوشع كانا قد قتلا الخضر فور وصولهما إلى ذلك المكان المجهول؟
نحّيتُ فكرة الخضر جانباً، وجاء دور اليهودي التائه، كارتافيلوس. ذلك الذي كان يقف أمام المحكمة التي أدانت السيد المسيح، ولما خرج الأخير نهره كارتافيلوس: اسرع، فيمَ التلكؤ؟ فالتفت إليه المسيح: سأمضي، ولكنك ستبقى إلى أن أعود. ومنذ ذلك الحين، كما تقول الأسطورة التي أيدها العبقري الألماني كروتزر سنة 1602م، واليهودي التائه يجوب العالم يحسن إلى الناس وينشر الخير والرحمة. يا كارتافيلوس، نحنُ هناك في الأسفل، جوار البحر. وكعادة اليهودي، الذي لم يتدخل سوى مرة واحدة في شأننا اليمني ضد الثورة، تركنا كارتافيلوس، وقيل اسمه جوزيف، لشأننا الخاص، وانطلق إلى الشمال يزيّن وجه أوروبا ويتابع بطولة الأمم الأوروبية، ويشجع المنتخب الطلياني.
صباح هذا اليوم، جاءني سلاح الملاذ الأخير من الكاتبة الأيرلندية الكبيرة "ماري كيللي". ماري هي مؤسسة لون خاص من ألوان المسرح العالمي عرف فيما بعد بـ"دراما القرية". وقد كتبت عقب الحرب العالمية الأولى مسرحيتها الشهيرة ذات الفصل الواحد "التعويذة". وكما يتحدث العنوان، فإن بمستطاعنا أن نتعامل بجدية مع مقترحها في الداخل. في داخل المسرحية تقف امرأة عجوز أمام كوخ قذر في قرية نائية إلى الشمال من مقاطعة ديفون. تدخل ابنتها منزعجة: أماه، لقد ذهب كل شيء. وعلى الفور تكتشف العجوز أن كل شيء قد انتهى: الثور، البقرة، العجل، الدجاج. تتدخل ابنتها: يبدو أن الإله يريد هذا يا أمّاه، فترد عليها الأم: لا يا يا ابنتي، ليس الإله، إنها مدام أنديكوت، هي التي تفعل كل هذا، وسأجعلك تتيقنين الآن من صحة كلامي.
تقوم العجوز بزرع مجموعة من المسامير في كتلة لحم موضوعة في حجرها: إنها قلب ثور مخصي، يا ابنتي. ورافضة اعتراض ابنتها بشجاعة ويقين، تضع قلب الثور المخصي، المطرز بالدبابيس، على الموقد. بعد لحظات تسمع طرقات خفيفة على الباب. تتسمر المرأتان في مكانيهما. هنا تختم ماري كيللي مسرحيتها المكثفة بنتيجة متوقّعة: بعد وقت قصير نهضت العجوز وفتحت الباب. وبصوت لا تبدو عليه أي من علامات الإرباك قالت لابنتها التي انكمشت في ركن الكوخ: لا بد أنها ميّتة يا ابنتي، إنها مدام أنديكوت.
بعد فراغي من قراءة المسرحية قلت لنفسي: من الأفضل أن يبحث كل ناخب يمني، عشية الانتخابات النيابية القادمة، عن قلب ثور مخصي، ويفعل فعل عجوز "ماري كيللي". لقد جرّبنا الانتخابات عشرات المرّات ولم نفلح، فربما كان السر في أضعف الخلق، في قلب ثور مخصي يوضع في النار فيتسبب في تساقط القتلة واللصوص والمفسدين مثل الذباب. يا عذراء، يا خضر، يا كارتافيلوس، يا شميلة، يا مار جرجس، يا... يا قلب الثور المخصي.. بس خلاص.
thoyazanMail

إقرأ أيضاً