القضاء.. والحريات الصحفية - عبدالباري طاهر
من الصعب إن لم يكن مستحيلاً الحديث عن حريات صحفية بخاصة وحرية ديمقراطية بعامة في غياب القضاء الكفؤ والنزيه المستقل والعادل.
لم تعرف المتوكلية اليمنية وشريعتها أي مفردة من هذه المفردات. فقد كان القضاء حليفاً سياسياً للحاكم «المثالي» والنهّاب «اداة غليظة» لنهب الناس. وقهر إرادتهم في حياة حرة وكريمة آمنة ومستقرة.
وعندما كتب الاديب الكبير الشاعر أحمد عبدالرحمن المعلمي (ربما بالتعاون مع رفيق دربه القاضي العلامة والمناضل الكبير عبدالرحمن بن يحيى الارياني) كتاب «الشريعة المتوكلية» كانا يسجلان حقائق لها مذاق الحنظل ونكهة الموت فالشريعة المتوكيلة التي ورثتها ال «ج. ع. ي» كانت وما فتئت غابية (نسبة للغابة) وغرائبية.
لم تعرف ال «ج. ع. ي» أي إصلاح ديمقراطي أو تحديث حقيقي. وتحتكم العديد من مناطق البلاد إلى العرف القبلي. وتنزل الدولة على هذا الحكم الذي يسميه القرآن الكريم «طاغوتاً».
تحتكم إلى العرف في قضايا الحروب والثارات والخطف والحرابة. أي في القضايا التي تمس الأمن والسلام والاستقرار. وتطال من معنى الدولة وهيبتها.
القضايا التي سجلها كتيب «الشرعية المتوكلية» ما تزال حية. وربما حدث الأسوأ بعد انتصار حروب القبيلة على الدولة. وأصبحت إِهانة القضاء والتعدي على سيادته واستقلاله هو السائد والعملة المتداولة. النماذج الكاثرة تجعل من ضعف القضاء وغياب الاستقلالية «ظاهرة». فهناك اعتداءات على قضاة ومحاكم واختطاف لبعضهم، واعاقة تنفيذ الاحكام. ربما أن اليمن هو البلد شبه الوحيد في العالم الذي يستمر التقاضي فيه لعشرات السنين على قضايا ليست مهمة كما أنه البلد الوحيد في الدنيا الذي يصدر فيه القضاء ثلاثة أحكام في قضية واحدة حكم لك وحكم عليك، وحكم لا لك ولا عليك، وغالباً لا تنفذ احكامه خصوصاً اذا كانت ضد نافذين.
إن احتكام اليمنيين إلى الثارات والاحتراب شاهد غياب الدولة ومن باب أولى غياب القضاء الكفؤ والنزيه المستقل والعادل، فالقضاء المستقل الموروث من بريطانيا في الجنوب بعد الاستقلال ابتلعه قضاء «المتوكلية اليمنية» ال «ج. ع. ي» بعد حرب 94 والعافية لا تعدي وانما المرض هو المعدي، والعملة الرديئة تطرد العملة الجديدة، والفساد والاستبداد لا يحتاج إلى تعلم أو عناء أو مكابدة.
القضاء الذي ورثته ال «ج. ع. ي» قضاء مذهبي فاسد وغير مستقل فهو حليف للحكم. وجزء من التراتبية الاجتماعية القائمة على التركيبة القبلية المتخلفة.
ورغم أن الدساتير الكاثرة منذ سبتمبر 62 وحتى دستور دولة الوحدة 9 تطرح قضية الفصل بين السلطات، واستقلال القضاء (نظرياً) إلا أن السائد طغيان السلطة التنفيذية على القضاء، وغياب الفصل الحقيقي في بلد يترأس فيها رئيس الجمهورية مجلس القضاء الاعلى، ويصادق على الاحكام حتى الأمس القريب.
وكثيراً ما ردد الاحرار: «من حقي ألاّ يقطع رأسي الا بحكم». والمقالة التي رددها الاحرار في المتوكلية قبل أكثر من نصف قرن ما تزال قائمة حتى اليوم. بل إن القتل وسط المحاكم وخارجها كما حدث للعميد عبدالكريم المقحفي يجعل الشعار مطلباً عادلاً وملحاً اليوم.
تحرص السلطة التنفيذية على تغييب استقلال القضاء، وعلى عسكرته وتسييسه فهو أي القضاء ما يزال عصا كعهده في المتوكلية ضد الخصم السياسي والحريات العامة والديمقراطية.
صحيح أن هناك استثناءات ولكنه الاستثناء الذي يؤكد القاعدة، ولا ينفيها. فهناك قضاة نزيهون وعادلون أصدروا أحكاماً مؤصلة لحرية الرأي والتعبير وكفالة الحريات الصحفية. ولكنهم قليلون وقليلاً ما هم وغالباً ما يعاقبون بالنقل إلى الاماكن الريفية والنائية أو يقصفون من وظائفهم والامثلة وافرة.
يستطيع وزير الاعلام ان يتطاول على القضاء ويأخذ اختصاصه في اصدار قرار جائر بسحب ترخيص صحيفة «الوسط». وينتصف القضاء للصحيفة. ويتلكأ الوزير في التقيد بحكم القضاء.
ولا تدرك السلطة التي تعلن الحرب على الفساد صباح مساء أن أسوأ أنواع الفساد سوء استخدام السلطة، والتعسف في ممارستها.
فهذا الوزير الذي لا محل له من الاعراب في نظام ديمقراطي، لأن مجرد وجود وزارة اعلام تحتكر الصحافة الممولة من الشعب وأكثر من إذاعة وقناة فضائي ووكالة أبناء تحتكر الخبر شاهد غياب الديمقراطية والحريات الصحفية.
ليس الصحفيون من يهيئ القضاء أو يعتدي عليه. فالصحفيون لا يستطيعون كفالة حرياتهم، وازدهار مهنتهم الا في ظل قضاء حر عادل ونزيه، وقبل ذلك مستقل. ويفضل الصحفيون «القضاء» حتى لو كان جائراً على الاختطاف والاخفاء والضرب من عصابات مسلحة لا سلطان لأحد عليها.
عدة أسابيع مضت منذ اعتقال الصحفيين والكتاب: علي هيثم الغريب، واحمد عمر بن فريد، واحمد القمع، والعسل، دون ان يحالوا إلى القضاء.
ويتعرض الصحفي محمد المقالح للحبس منذ أسابيع، ولا يسمح بزيارته، ويتخذ التعاطي معه طابع الثأر والانتقام.
يقبل المواطنون كالصحفيين بالقضاء لأنهم يدركون أن السلطة منحازة للطاغوت، فهي أميل للعرف القبلي الذي يجعل القتل حلالاً زلالاً كشرب الماء، ويجعل ذبح ثور أو كبش كفارة للدم الآدمي واهانة الكرامة. ونسأل قضاتنا الاعزاء: كم حالة تعرض فيها القضاء والقضاة للاهانة وحكم العرف فيها.
احترامنا للقضاء وهيبته نابع من احترامنا لأحكام الشرع التي لا تصوغها القبيلة «فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم. ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما» الآية. (النساء 65) والخطاب وإن كان موجهاً للرسول الكريم إلا أنه عام في من تتوفر له شروط القاضي المجتهد العادل الكفؤ والنزيه حسب الكثير من المفسرين.
إن الصحفيين كغالبية المواطنين يدركون أن تقدم اليمن وازدهارها واستقرارها مرتبط أشد الارتباط باصلاح القضاء واستقلاله ونفاذ احكامه واحترامنا، وباختصار بالاحتكام اليه حقاً وصدقاً وليس لحكم الطاغوت.
لا نريد للقضاء أن يتحول إلى ما يشبه العصبية القبلية أويستخدم كهراوة أو وسيلة لتصفية حسابات سياسية أو أمنية.
أكثر من أسبوع على احتجاز الكاتب والصحفي محمد المقالح، ورغم قبول القاضي للاعتذار عما دار في جلسة محاكمة «الخلية الارهابية» التي يراد لها وبها معاقبة الصحفي عبدالكريم الخيواني. ويعرف الجميع أن الخيواني يحاكم ويعاقب ويختطف في وسط صنعاء، ويعتدى عليه بالضرب، واقتحام منزله وترويع اطفاله، والاستيلاء على مقتنياته بواسطة عصابات مسلحة حيناً وبواسطة الامن القومي في حالات اخرى. لعدة أشهر يحاكم الصحفي عبدالكريم الصحفي بتهمة الارهاب أمام محكمة جزائية متخصصة يشكك القانونيون والمحامون في دستوريتها. إن الاستمرار في احتجاز المقالح وعدم السماح بزيارته وعدم الاستجابة لإطلاق سراحه بضمانة نقابة الصحفيين خصوصاً بعد الكلام المكرر عن تنازل القاضي عن الحق الشخصي فإن استمرار الاحتجاز للمقالح المتضامن مع زميله الصحفي الخيواني الذي يعاقب على كتاباته الناقدة بتهمة الارهاب عقاب للصحافة والصحفيين.
للخيواني خلافات سياسية مع الحكم فهو من أوائل إن لم يكن أول من فتح ملف التوريث والفساد والاستبداد، وقد عوقب وحزبه باستيلاء السلطة جهاراً نهاراً على الحزب. واستنسخت صحيفة «الشورى» التي يرأس تحريرها، وسجن لعدة أشهر، ثم تعرض للاختطاف والضرب أكثر من مرة، وبعد الاختطاف والضرب والتهديد بتكسير الاصابع بعد ايلامها يحال إلى محكمة خاصة ذات طبيعة أمنية تحاكمه بتهمة الارهاب، وتضع السلطة اصابعها في اذنيها حتى لا تصيخ السمع لنداء الصحفيين واحتجاجات المنظمات الدولية الصحفية والحقوقية المدنية لمحاكمة الخيواني واتهامه بالارهاب.
تتعامل الدولة مع الصحفيين بروح الثأر والانتقام القبلي. فأحمد القمع والعسل والغريب وابن فريد والمقالح والخيواني كلهم يعاقبون بسبب آرائهم المغايرة والناقدة.
وأخشى ما نخشاه ان يستخدم القضاء لتجريم هؤلاء الصحفيين لحسابات سياسية، ربما يسيء إلى القضاء وسمعة البلاد ومكانتها.
القضاء.. والحريات الصحفية
2008-05-15