لا غرابة في أن تمر ذكرى رحيل الأستاذ أحمد محمد النعمان مرور الكرام. الرجل الذي عصر عقله من أجل تحرير بلده من مهالك الجهل والطغيان وغزوات العصبية والسلاح، العَلَم الذي أضاءت روحه على مدى نصف قرن، تنويراً وإصلاحاً ومدنية... الرجل العَلَم والأستاذ المعلِّم لا يكاد يظهر في الإعلام اليمني في ذكرى رحيله ال11، ذلك أن الساحة محتكرة لمقامرين من كل صنف، والشاشات على عهدها مكرسة للحاكمين، والصحف غارقة في سجالات عامرة بالرطانة والطنطنة اللفظية، وإلا فبالعنف اللفظي الذي يستزيد من خبرة عقود من الاقتتالات والانقلابات والاغتيالات التي كان أبرز ضحاياها نجله محمد، الذي وصفه الصحفي اللبناني الراحل ميشال أبو جودة بـ«رجل الحوار».
في ذكرى الراحل المقيم التي صادفت 28سبتمبر الماضي، اختارت «النداء» أن تنشر كلمته في رثاء الشهيد محمد في أربعينيته، وفيها نلفى روح الاستاذ مبثوثة في كل عبارة من عباراتها، رفعة وثباتاً ورساية. وفيها إدانة صريحة للعنف والإقصاء والقسر، وإعلاءً للحوار بما هو سبيل اليمنيين لمفارقة الاحتراب الذي يأكل أعمارهم و ثرواتهم ومستقبلهم.
من قلب المأساة الناجمة عن فقد الابن: «رجل الحوار» الذي اغتالته رصاصات بغيضة، يتحامل الأب الذي كانه، وما يزال، الأستاذ النعمان، على عذاباته، مخلداً درساً مؤثراً في السياسة، كم بالحري أن يتمثله محتربو هذا الزمان.
* «النداء»
رحمك الله ورضي عنك يا محمد
كم كنت أشفق عليك من الصراحة والوضوح في مجتمع يحتاج إلى صبر وطول بال حتى يتقبل الصراحة والوضوح وكم كررت على سمعك الحديث النبوي:
«خاطبوا الناس على قدر عقولهم»
ولكن ربما كنت تشعر في أعماقك أن عمرك قصير وأن الايام لن تمتد بك حتى تتحدث إلى الناس بالتدريج وعلى مهل بما تعتقد أنه حق وصدق.
وفي الأيام الأخيرة من حياتك صببت أفكارك صبا على مواطنيك في المحاضرات التي ألقيتها في نادي الخريجين بصنعاء وفي نادي الضباط، وقد ركزت في محاضراتك على الدعوة للحوار والجدل بالتي هي أحسن وإيثار الإقناع بالمنطق والكلام على لعلعة الرصاص في الظلام، وشعارك الدائم «إدفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم».
ولم تكن تدعو للحوار بين مواطنيك فحسب بل بين الناس جميعا كما دعوت لذلك في المحافل الدولية والإسلامية والعربية التي مثلت فيها اليمن.
ففي الأمم المتحدة وفي نفس الاجتماع الذي دعا إليه وزير خارجية أمريكا جميع وزراء خارجية الدول العربية والأمين العام للجامعة العربية.. في هذا الاجتماع بالذات كنت أول من صارح بضرورة وجود المحاور الفلسطيني الصاحب الرئيسي للقضية الفلسطينية والمشكلة الفلسطينية وقلت لوزير الخارجية الأمريكية بصريح العبارة لا حل لمشكلة فلسطين ما لم يوجد من يمثل فلسطين من أبنائها.
وفي مؤتمر الدول غير المنحازة، في الجزائر جاء أخونا في الله ياسر عرفات رئيس منظمة التحرير الفلسطينية يقدم الشكر والثناء للرئيس السابق القاضي عبد الرحمن الإرياني على موقفك كوزير لخارجية اليمن وصراحتك في إعلان رأي اليمن يجب تمثيل الشعب الفلسطيني في أي مؤتمر تبحث في قضية فلسطين وأنه هو صاحب الحق الذي لا يحق لغيره أن يمثله أو يتحدث باسمه أو يشرح مشكلته.
وفي محاضرتك الأخيرة في نادي الضباط والحوار مع أحد الفلسطينيين لم يتغير ولم يتبدل..
إنني لا أدري ما هو السر في شدة حماسك واندفاعك في الأيام الأخيرة للدعوة إلى الحوار.
هل كان ذلك لشدة نفورك من العنف وكراهيتك له طيلة حياتك واشمئزاز نفسك منه حتى ضد من يختلفون معك ويحقدون عليك حقدا أعمى، أم كان عندك إحساس خفي بمن يتربصون بك الدوائر ويريدون قتلك؟ ولم تشأ أن تكاشفنا بهذا الإحساس متشبعا بروح أبيك الشهيد القاضي محمد محمود الزبيري رحمه الله، الذي أبرق قبل اغتياله ببضعة أيام إلى بعض من كان يتشكك في نواياهم ضده ويتوهم أنهم يحرضون على قتله وأستشهد في برقيته إليهم بقول الله سبحانه في سورة المائدة:
«لئن بسطت يدك إلي لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين. إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين».
إن الزبيري رحمه الله لم يكاشفنا بأحاسيسه أبدا ولم نجد نسخة تلك البرقية إلا بعد استشهاده مع قصيدته الشهيرة «هذا هو السيف والميدان والفرس» والتي جاء فيها:
كفى خداعا فعين الشعب صاحية
والناس قد سئموا الرؤيا وقد يئسوا
إن شئتموا فاقتلوا من ليس يعجبكم
أو من ترون لهم في قربكم دنس
وأحرقوهم بغاز كلما أجتمع الأحرار
أو فكروا في الرشد أو حدسوا
من حظكم أن هول الأمر مستتر
عنكم وان شعاع الشمس نطمس
هناءة الحكم أن أعماكم بله
عن الكوارث واستغواكمو حرس
يا محمد
إن صديقك ميشال أبو جودة أختطف عقب نشره مقالا بكاك فيه ورثاك وأطلق عليك لقب (رجل الحوار) إن كلمة الحوار لا تطاق، إنها تؤذي أسماع وقلوب القتلة السفاحين من أعداء الشعوب وتجار الحروب تؤذي أولئك الذين لم يبرعوا في شيء كما برعوا في الغدر والمكر والخداع وتدريب العصابات للاغتيال وتدبير المؤامرات لسفك دماء الأبرياء والإطاحة بالرؤوس المفكرة المؤمنة.
كلمة الحوار ترهب أولئك الذين لا يحسنون الحوار ولا يفقهونه ولا يطيقونه.
رحمك الله يا محمد ورضي عنك
إنني أكتفي بهذه الكلمات بعد مرور 40 يوما على استشهادك وأنا (كبير على البكاء).
ولو شئت أن أبكي دما لبكيته
عليك ولكن ساحة الصبر أوسع
نم في قبرك هنيئا راضيا مرضيا مطمئنا فقد أراد الله لك الخير وحررك من متاعب الحياة وكيد الحاقدين وشر الحاسدين وكتب لك الشهادة.
وحسبك أن شعبنا اليمني الكريم الوفي كان بقادته الأبطال من آبائك وإخوانك وزملائك، كان كريما معك وفيا لجهادك.
لقد نقل جثمانك من لبنان لتدفن في اليمن في وطنك الحبيب بين من سبقك من الشهداء وحلق بك في سماء الجزيرة العربية من شمالها إلى جنوبها ورفعك عاليا ليراك الناس جميعا وليسمعوا صوتك المدوي الذي ظل ينادي بالحوار، ولعل أباك الشهيد الزبيري كان يصور هذا المشهد بقوله:
هب يرخى للساقيات عنانه
ويجلي للنيرات مكانه
أمل في جوانح اليمن المغمور
ألقى ملء الفضاء بيانه
وضمير مجنح شهد العالم
في الأفق بره وحنانه
وصلى عليك شعبك وحملك على أكتافه وشيعك إلى مثواك الأخير تشييعا يتكافأ مع حبك له وأيمانك به وحرصك على سعادته وأمنه واستقراره مباركا دعوتك.. الحوار الذي سقيت شجرته بدمك الغالي.
ففي ذمة الله وفي رحمته ورضوانه.
أحمد محمد النعمان: وأنا كبير على البكاء
2007-10-04