في الطابق الخامس بديوان وزارة الصحة، يحمل المكتب المجاور لمكتب وزير الصحة «يافطة» كتب عليها: «الشؤون القانونية»، لكن مهمته معطلة، في قضايا مزوري ومهربي الأدوية، لغياب القوانين المتعلقة بهذه التجارة القاتلة، فيما جماعات تزييف الأدوية تحرص على تطبيق «قانونها» المتمثل بإغراق الصيدليات بآلاف العقاقير والأقراص الدوائية الفاسدة والمغشوشة والمزورة. هكذا يبدو المشهد:
تحقيق - بشير السيد :
تغيب الصحة لتحضر السموم!
يعاقب المرضى في بلادنا بالموت او الطريق إليه، وفقاً لهول كمية السموم المزدحمة على رفوف الصيدليات والتي تتوارى خلف مسميات دوائية.
تقول الدراسات ان حجم الادوية المغشوشة الفاسدة والمزورة والمهربة في بلادنا تمثل ما نسبته 50٪_ من اجمالي كمية الادوية الموجودة في الاسواق، وأن 60٪_ من الادوية الموجودة دخلت البلد عن طريق التهريب و يبلغ حجم الادوية المستوردة بطرق غير رسمية ما بين (37-50٪_) من حجم المعروض الكلي.
إن نشاط التجارة القاتلة لم يصل إلى هذه الأرقام بين عشية وضحاها.. لقد اجتازت مراحل زمنية تمتد إلى عقدين ماضيين بدأً بما يعرف بتجارة الشنطة، إلى قيام جماعات تزييف الادوية بإغراق الصيدليات بالأدوية الزائفة التي غالبيتها تصنع في دول شرق آسيا، وهذا يقودنا إلى احتمالين: الأول أن تجارة الموت ربما حظيت وتحظى برعاية ومباركة المسؤولين على سلامتنا!! وهذه خيانة وطنية وجريمة في حق الشعب.
والثاني أن هذه التجارة استطاعت ان تنمو وتستفحل أمام عجز الاجهزة التنفيذية في وزارة الصحة والداخلية ومصلحة الجمارك طوال تاريخ هذه التجارة.
ومن المؤكد ان الاحتمال الاول هو الأقرب للفساد الواقع، ف«المال» يسيل اللعاب، وتنبت له الانياب، والمخالب الشرهة للفتك حتى ولو كان بالمرضى، الذين لا ذنب لهم سوى تألمهم من داء ألم بهم. وهو السبب نفسه (المال) الذي جعل الحكومة مشغولة بالقروض والاستثمارات النفطية و....الخ، حد تعبير رئيس لجنة الصحة والاسكان في البرلمان، الدكتور نجيب سعيد غانم.
يضربون الذيل ويتركون الرأس
ويلحظ من خلال اداء الاجهزة الضبطية (الصحة والأمن) في الاشهر الثلاثة الماضية انها اقتصرت في عملية الضبط على العاملين فقط، فيما يظل اصحاب وملاك التجارة القاتلة طلقاء. انها الوسيلة التي تلجأ اليها هذه الاجهزة لإزالة الشبهة عنها، إن لم يكن احد اساليب الارتزاق، وهكذا يصير العامل كبش فداء.
رئيس لجنة الصحة بمجلس النواب الدكتور نجيب غانم، اعتبر غياب اجراءات اجهزة الضبط الصارمة ضد تجار الادوية القاتلة بمثابة مشاركة في جريمة القتل الجماعية التي ترتكب في حق المرضى. وقال إن هذه التجارة كـ«الأفعى» وإذا أردت قتلها فلا تضرب الذيل، اضرب الرأس».
في مارس الماضي ضبط افراد الأمن خمسة تجار ادوية وهم يقومون بتزوير لبان جنسي، ويبعيونه للصيدليات في أمانة العاصمة، وفي نفس الشهر تم الافراج عنهم دون معرفة المرجعية القانونية التي استند عليها من لهم صلاحيات الافراج. كما ان شركة تعمل في حقل الأدوية، تتخذ من أمانة العاصمة مقراً لمكتبها الرئيس، تحمل تراخيص من الهيئة العليا للادوية، ضُبطت في مستودعاتها ادوية مزورة ومحرمة ومنتهية مع عشرين سجلاً خاصاً بـ«زبائنها». ومطلع إبريل الماضي تم احتجاز عاملين إثنين، كانا متواجدين في المستودعات اثناء الضبط هما حالياً في نيابة المخالفات بعد أن أقرا على نفسيهما بمسؤولية تزوير الادوية، إلا أنهما نفيا في محاضر التحقيقات بيع شيئ منها. فيما السجلات التي تؤكد تورط الشركة وتعد دليلاً على كمية الادوية التي خرجت من مستودعاتها وبيعت للصيدليات سلمت من قبل البحث لأحد الشركاء (م.ج)والذي قام بفتح مستودعاتها (المغلقة من قبل البحث والنيابة والصحة) ثاني يوم الاغلاق وهذه «الشركة» ما تزال تزاول عملها. كثيرة هي الاجراءات التي تتم بهذه الكيفية.
مصادر موثوقة افادت ان تحقيقات البحث الجنائي تأخذ مساراً غير قانوني برغم انها تجرى مع العمال وليس مع المالك، وقالت ان ادارة العمليات والمتابعة والتنسيق في البحث الجنائي اصبح طاقمها (9) من اصل (74) ضابطاً وفرداً بعد تحويل (65) منهم إلى إدارة أخرى في البحث الجنائي الشهر الماضي.
ورجحت المصادر ان يكون السبب في تحويل هؤلاء هو نفوذ مزوري ومهربي الادوية، لا سيما ان هذه الادارة، وفقاً للمصادر استهدفت في حملتها خلال الأشهر الثلاثة الماضية جماعات تزوير وتهريب الادوية، إلا أن ادارة البحث الجنائي رفضت -في اتصال هاتفي اجرته معها «النداء»- الادلاء بأي معلومات، وقالت قبل انقطاع خط الهاتف: «هذه شؤون داخلية ولا يحق للصحافة الخوض فيها».
ويرى «غانم» ان استمرارية ظاهرة تزوير وتهريب الادوية له علاقة مباشرة بالكيفية التي تتعامل بها الاجهزة التنفيذية مع هذه الظاهرة. وقال إن هذه الاجهزة مختلة، وأكد ان اسباب انتشار الظاهرة ضعف أداء الاجهزة التنفيذية في احتواء الظاهرة.
سلطة السموم.. وخسائر متتالية
تمكنت شبكات تزييف الادوية من تطويع كل ما يمكن ان يقف عائقاً أمام رواج تجارتهم السامة. ولأن الارباح التي تجنيها هذه الشبكات طائلة جداً فلا يمنع أن يستغني هؤلاء عن جزء يسير من تلك الارباح لتسهيل عملياتهم، وتجنباً لمخاطر الضبط، وهذا ما تفسره حالات ضبط بعض شحنات الادوية المزيفة المعلن عنها رسمياً أثناء اتلافها حيث توجه الانظار إلى هذه الادوية المضبوطة، فتعامل كأنها المتهم الحقيقي، فيما الفاعل والمالك يظل بعيداً عن القضاء والمساءلة والضبط، ما دامت ارباحه تتكفل بالأمر.
اما الشركات الدوائية المتضررة فإن تضررها يرجع إلى ارتفاع نسبة كميات الادوية المهربة والمزورة لاصناف هذه الشركات الى حجم الطلب الكلي من الصنف في الاسواق المحلية، وعدم قدرة هذه الشركات على تأمين التصريف لاصنافها، وعجزها عن منافسة اسعار تلك المزورة والمهربة. وبرغم هذه الخسائر إلا أن خسائر اخرى تتبعها في سبيل وقف الخسائر السابقة. وهكذا: خسائر من جراء التزوير والتهريب وأخرى من المبالغ المدفوعة للاجهزة الضبطية مقابل وعودها بضبط المزورين.
مدير عام شركة «الشرق للأدوية» محمد عبدالقوي عثمان قال: «نحن كشركة متضررة لا نملك اي وسيلة لكبح هذه الظاهرة سوى التبليغ عن الاصناف المزورة والمهربة التي نكتشفها عند وجودها في الاسواق، ومصدرها غير الشركة الوكيلة لهذه الأصناف»، وأوضح ان الشركة تتعاون مع الاجهزة الضبطية بالطرق المناسبة.
ويوافقه المدير التنفيذي للشركة «بشير الغلابي» ويضيف إلى ذلك ان الاجهزة الضبطية تأخذ الاصناف المبلَّغ عنها ومبالغ مالية بجانبها، «ولكن، والحديث لـ«الغلابي»، لا نعلم كيف تجرى الأمور بعد البلاغات، فقط عندما نسألهم عن الجديد، يخبرونا انهم ضبطوا المزورين، دون ان نعرف من هم المزورين و كم هي الكمية المضبوطة، واين مصيرهم ام انهم اصطلحوا معهم أم أنه مجرد كلام ولم يتم ضبط أحد؟؟ لا نعلم».
وقال إن «الشركة طالبت الاجهزة الضبطية في الفترة الأخيرة بالتواصل مع الشركة في حالة ضبط المزورين «لنعرف من هم المضبوطين كي نتمكن من رفع دعوى في القضاء ضدهم».
فيما اعتبر عماد الخطيب، مدير مبيعات قطاع الادوية في شركة «ناتكو» التابعة لمجموعة هائل سعيد أنعم، ان الاجهزة الضبطية اصبح اداؤها مقبولاً في الآونة الاخيرة، وقال إن الشركة تتعاون مع الاجهزة الضبطية وتساعدهم لمكافحة هذه الظاهرة. ولكنه يعاني من كثرة الاستفهامات غير المجابة فهو يقول: «لا نعلم كيف يتم التعاطي مع هذه الظاهرة، وهل هناك اجراءات حقيقية تتخذ ضد المزورين المضبوطين وهل هناك مضبوطون أم لا».
وطالب الخطيب بخضوع قضايا التزوير والتهريب لقانون الجرائم الجسيمة وتصنيفها وفقاً لذلك؛ كونها تعرض حياة المواطنين للخطر.
يغيب القانون عندما تغيب الإرادة
وبرغم تفاقم معدلات الاصناف المزورة والمقلدة والمغشوشة في الاسواق، واستمرار هذه الظاهرة منذ عقدين من الزمن بما تمثله من تهديد حقيقي لصحة الانسان، إلا أن هناك تباطؤ غريب في اداء الاجهزة الحكومية إزاء هذه الكارثة، لقد مضى ردحاً من الزمن ومشروع قانون الصيدلة حبيس الأدراج.
الدكتور نجيب غانم قال «الحكومة مشغولة بالقروض وأي مشاريع لها علاقة بالاستثمارات النفطية.. والخ، وانها غايبة تماماً عن المجالات الحيوية كالتعليم والصحة»، واضاف ان مشروع قانون الصيدلة لم يصل إلى مجلس النواب حتى الآن.
ووصف اداء الحكومة بالبطيء، وقال: «هناك بطء في انسياب مشاريع القوانين من الجهات الحكومية إلى مجلس النواب، خاصة مشاريع القوانين العقابية، ولا بد أن يتضمن القانون كل ماله علاقة بالادوية، بما فيها التزوير والتهريب والغش»، وأكد على أهمية جدية الحكومة في هذه القضايا، وأن الإرادة تسبق القوانين فلا فائدة من قانون بدون إرادة حقيقية.
وأشار إلى ضعف التشريعات في مجلس النواب وان قضايا تزوير وتهريب الادوية لم ترق إلى مستوى الجريمة، واكد على ضرورة اخضاعها لقانون الاجراءات الجزائية والعقوبات والجرائم، كونها مرتبطة بالجريمة والجريمة المنظمة. واستغرب لعدم تفعيل هذه الظاهرة من قبل الاجهزة التنفيذية، موضحاً أن لجنة الصحة لم يصلها أي تقرير سواء من الحكومة أم من الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة، حول هذه الظاهرة.
وبرغم تأكد وزارة الصحة من أن القائمين على تزوير وتهريب الادوية وبيعها هم أصحاب شركات رسمية وتجار جملة مرخص لهم، وذلك من خلال حملة لجان الرقابة والتفتيش الصيدلاني في الوزارة خلال الاشهر الثلاثة الماضية؛ إلا أن الوزارة لم تقم بمصادرة هذه السموم من الصيدليات، تاركة هذه السموم تحصد ارواح المرضى باسم الدواء.
وهكذا يعاقب المرضى في بلادنا بالموت او الطريق اليه، فالمرض جريمة جسيمة وسيظل جريمة ما دامت الصحة غائبة والسموم حاضرة، وما دامت جماعات تزييف الادوية تخلص في تطبيق قانونها المتمثل في إغراق الصيدليات بتلك السموم.
تغيب الصحة لتحضر السموم!!.. رئيس لجنة الصحة في البرلمان: الأجهزة التنفيذية مُختلة
2006-05-31