براءة من زور القول (الثانية والأخيرة) - حسن العديني
«الأسبوع الماضي كنت على سفر فلم أسطع»
كفتني جريدة «العربي» المصرية 15/2/2009 أن أخوض في مناقشة مع احمد منصور «الجزيرة»، وضيفه جمال حماد. وكنت قد وجدت ما يدعوني لمثل هذه المناقشة بعد أن شاهدت حواراً متقطعاً في حلقتين. ثم بعد أن قرأت الحلقات التسع الكاملة شعرت بأسى، لأنني ألزمت نفسي التعليق قبل أن أقتنع، مما قرأت في «العربي»، بضرورة لزوم الصمت، ولذلك فأنا أكتب الآن من باب الوفاء بوعد تعجلت في قطعه.
نشرت «العربي» صورة مذكرة التماس طويلة بخط يد جمال حماد، ضيف أحمد منصور، إلى الرئيس جمال عبدالناصر في 22 سبتمبر 1962 فيها رجاء ذليل أن يجد الرئيس في وقته دقائق للقاء العميد حينئذ أركان حرب حماد، حتى يوضح ويؤكد ويبرهن على إخلاصه لسيادة الرئيس واستعداده لفدائه بروحه ودمه. وقد بدأ المذكرة بأنه اكتشف سر عزوف الرئيس عنه وإهماله إياه لمدة خمس سنوات منذ رجع من دمشق، حيث عمل ملحقاً عسكرياً حتى 1957.
ولأن نائبه السابق في الملحقية العسكرية، زغلول عبدالرحمن، قد خرج على الحكومة المصرية وأدلى بتصريحات معادية، في مؤتمر شتورة بلبنان، الذي نظمته القوى المعادية لمصر، ومنها السعودية والنظام الانفصالي في سوريا؛ لأن الأمر هذا، اكتشف جمال حماد أن السر في الرجل الذي دأب على كتابة التقارير ضده وطعنه بالوشايات، والسبب أن زغلول عبدالرحمن هو ابن شقيقة أحمد ومحمود أبو الفتح، صاحبي جريدة «المصري»، اللذين اختلفا مع قيادة الثورة ضمن آخرين واستقرا في الريفيرا بفرنسا ليشرفا على إذاعة «صوت مصر الحرة» الموجهة ضد الثورة في مصر منذ تأميم قناة السويس وحرب 1956. والإذاعة في واقع الأمر هي صوت الاستخبارات الفرنسية والبريطانية (الM16) مدعوم رجالها المصريون من استخبارات دولة عربية نفطية.
هذه العلاقة المشبوهة أوردها بتفاصيل الوقائع الصحفي المصري محمد حسنين هيكل في كتابه «سنوات الغليان» المنشور في 1987. حينها جُنَّ جنون محمود أبو الفتح، وهدد في الصحف بأن ساحة القضاء ميدان ستدور فيه المبارزة القانونية مع هيكل، لكي تتأكد فروسيته الوطنية ويثبت زيف ما نشر ضده؛ ثم لم نشهده في ساحة أو ميدان ولم نره راكباً فرساً قانونياً أو حماراً، حتى توفاه الله.
نرى جمال حماد في دردشته مع منصور وقد تحول من واشٍ على أسرة «أبو الفتح»، ضحية ابن اختهما، إلى متعاطف مع الأسرة، مؤكداً ما وقع عليها من ظلم. فالوثيقة (الرسالة إلى جمال عبدالناصر) تُرجع سر إهمال الرئيس له إلى تقارير زغلول عبدالرحمن انتقاماً من تقارير ووشايات حماد الكاشفة لعمالة أسرة أبو الفتح واشتغالها ضد الثورة المصرية وزعيمها. وأهم ما في الوثيقة/ الرسالة أن حماد أعاد تأكيد استعداده لفداء الزعيم بروحه ودمه وحياته.
سكرتير جمال عبدالناصر رفع إلى الرئيس رسالة حماد بمذكرة غطاء من أسطر قليلة. لكن الرئيس أهمل الرسالة، فقد كان سبب موقفه الغاضب من حماد راجعاً لأشياء أخرى لا تتصل بتقاريره أو التقارير ضده.
أساس الغضب له صلة بذمة جمال حماد واستغلاله وظيفته كملحق عسكري لمصر في دمشق، فقد عثر على بضائع مهربة على طائرة نقل جوي اتضح بعد التحقيق والمساءلة أنها للملحق، فاستنجد بزميله القديم ورئيسه الحالي المشير عبدالحكيم عامر. وكعادة المشير النبيل والشهم، كريم النفس والطباع، مد إليه ظلَّ الحماية وأنهى التحقيق، وقيَّد الحادث على مجهول، كما يقول القانونيون.
لكن شهامة عبدالحكيم عامر لم تتسع للغفران لمزلات وسقطات العميد أركان حرب جمال حماد، فكثيراً ما اضطر إلى التشفع بتلميذه السابق شمس بدران، وقد استجدى منصب المحافظ منهما معاً، على عكس ما قال، وادعى الآن أنه فوجئ بقرار تعيينه لأنه كان في الواقع حريصاً على البقاء جندياً في الميدان عاشقاً للسلاح والصحارى والرمال. لقد اضطر في إحدى المرات أن يذهب إلى المطار وينتظر المشير عند البوابة التي سيدخل منها لاستقبال الرئيس جمال عبدالناصر العائد من موسكو، وادعى أن حاجته تمثلت في وساطة لإلحاق ابنه بالكلية الحربية، مع أنه كان يستطيع أن يترك طلباً من هذا النوع في مكتب المشير. وما استدعاه أن «يرتطع» على قارعة الطريق كي يحظى برؤية المشير هي حاجة التحرر من رمضاء الصحراء إلى المكتب الأثير والمكيف.
وفي تلك الفترة عُيّن محافظاً لكفر الشيخ. ثم لم يلبث طويلاً، إذ أوقعته ذمته المالية الخربة في فضيحة أخرى. هناك كانت على الطريق نقطة مرور كشفت ناقلات حكومية محملة ببضاعة تبين بالتحريات أنها خرجت من استراحة محافظ كفر الشيخ، وهي الآن في الطريق إلى منزله في القاهرة. نجف كريستال وسجاجيد وموبيليا وثلاجات وغسالات و«من مجاميعه»، كما يقول المصريون.
مرة ثانية أو ثالثة أو رابعة يتدخل المشير للتستر على زميله السابق في سلاح المشاة وتنظيم الضباط الأحرار. مع ذلك فالمشير الآن في نظر جمال حماد بالغ السوء. وإذ يحتال لمقابلته برحلة تنتهي في بوابة المطار، فلأنه لم يتمكن من ذلك في المكتب، لأن المشير إما نائم وإما سكران (!). ويسأله منصور لماذا لا يذهب إليه في البيت، فيرد بأن كرامته لا تسمح؛ ولكن هذه الكرامة تسمح بالهرولة إلى المطار والانتظار على قارعة الطريق (!). وعلى أي حال فإن ما رُوي وكُتب وقيل عن عبدالحكيم أنه كانت له حياته الخاصة، فذلك برنامجه في الليل، وأما في النهار فهو موجود في مكتبه. وكيف يستطيع الاستيلاء على قلوب ضباط الجيش من لم يكن متواجداً معهم، قريباً منهم؟!
هناك حكمة تنصح الكذوب بأن يكون ذكوراً كي لا يقع في شراك التناقض. لكن واحداً في شيخوخة جمال حماد يعجز عن الاحتفاظ بذاكرة يقظة، فيتكشف كذبهُ. وأما أحمد منصور فيفوِّت حتى لا يفضح محدثه فيفضح نفسه.
الآتي مثال مما ورد في الحلقة الثامنة، إذ يقول احمد منصور إن جمال عبدالناصر كان يتنصت على الثلاثة الذين استقالوا (يقصد عبداللطيف بغدادي، وحسن إبراهيم، وكمال الدين حسين)، وطلب تفتيش بيوتهم وورد ذكر بغدادي بالذات، فالرئيس طلب التفتيش على أخيه حسن بغدادي ووضعه تحت الحراسة. قال جمال حماد: «فلما ما لقاش أنه في عند أخوه فلوس في البيت ولا في البنوك ولا حاجة ففكر أنه يروح يفتش الأسرة في شاوا، فصلاح نصر قال له: تبقى فضيحة لو حصل كده، خصوصاً لو ما لقوش حاجة، بلاش الكلام ده».
المهم أنهم لم يجدوا شيئاً يمس ذمة بغدادي المالية، إن صح أن هذا حدث وأن عبدالناصر «تعامل بقلب أسود»، بحسب التعبير المتكرر على لسان أحمد منصور.
بعد سؤالين وإجابتين يقول جمال حماد: «لا، هو ألطف حاجة أنه هو شال الحراسة على أخو بغدادي ورجع له كل فلوسه وكل حاجته علشان خاطر إن البغدادي راح لجنة من لجان الانتخابات لما كانوا بيعملوا الاستفتاء على رئاسة الجمهورية، فكمال حسن ما راحش، فالبغدادي راح اللجنة القريبة من بيته وادلى بصوته، فهو جمال عبدالناصر فضل قاعد طول الليل ينتظر نتيجة اللجنة فلما طلعت 100٪_ راح عمل كده».
في البداية لم يعثر على فلوس لدى حسن البغدادي تدين أخاه، وحين لاحظ أن عبداللطيف بغدادي أعطاه صوته «رجع له الفلوس وكل حاجة».
وقد قلت إن «العربي» أعفتني من الإيفاء بوعد قطعته، لأنني بعد أن قرأت كل حلقات «شاهد على العصر» بين منصور وحماد لاحظت أنها جميعاً تستاهل الاغضاء والتجاهل، وأنني تسرعت عندما كتبت ما يشبه المقدمة، ووضعت عليه الرقم (1) كما لو أن هناك ما يوجب الحديث الطويل. ولعل أحداً لو أراد كشف الخبث لاكتفى بإعادة تدوين تعليقات وأسئلة احمد منصور وكلها تنزُّ بما فيه. لقد أعفيت نفسي عن عمل احصائية لكلمات وردت مثل: حقد، أسود، خيانة، مزاج، ناس بتاع كيف، عصابة، و...و...و...
فهل كانت تلك هي مصر؟
وهل تختزل هزيمة عسكرية مسيرة مجد وكبرياء أمة؟
قد تنفع الملاحظات التالية للتذكير:
أولاً: إن أعظم القادة في التاريخ تعرضوا للهزائم، والمهم بعد ذلك إن كانوا استسلموا أم صمدوا وعادوا للمقاومة. نابليون أعظم عبقرية عسكرية هُزم، وستالين استعاد مبادرة الحرب بعد أن اقترب الألمان من أبواب موسكو، وحتى الرسول الاعظم صلى الله عليه وسلم هزم في أحد وحنين.. فقال عبدالصبور: «أحد وبدر شارتان على رداء محمد.. عاش الجهاد». كان هذا وقد بلغ من جبروت المصريين في حرب الاستنزاف بقيادة جمال عبدالناصر درجة أرغمت اسرائيل على استجداء السلام عبر مبادرة «روجرز» (هذه الحرب لم يهتم احمد منصور في استدعاء شهادة حماد حولها)، وهذا الجبروت الذي انتهى بالإنجاز العسكري الرائع في اكتوبر، لولا أن ذلك كان بعد رحيل جمال عبدالناصر. وقد قرأت لضابط مصري لا أراه إلا وريثاً لعبقرية عبدالمنعم رياض قال محمد عبدالغني الجمسي لمجلة «الهلال» قبل وفاته بشهور إن جمال عبدالناصر هو القائد الحقيقي لحرب اكتوبر.
ثانياً: إن حضور عبدالناصر في سوريا والعراق واليمن لم يكن -بحسب ما كرر وكرر حتى الإملال احمد منصور- بحثاً عن مجد على حساب ضرورة المواجهة مع اسرائيل. فالأمن القومي المصري -لو يعلم- يمتد من الشام في الشمال إلى اليمن في الجنوب، ولو كان يقرأ أبعد من التفتيش عن مثالب لعبدالناصر لعرف أن مصر كانت تهزم دائماً عندما تنتظر الغزاة في حدودها وتنتصر باستمرار حين تخرج إليهم هناك في الشام. إلى هناك خرج رمسيس الثاني ليهزم الحيثيين، وإلى حطين والقدس والرها وطرابلس خرج صلاح الدين الأيوبي للحرب ضد الصليبيين، وإلى عين جالوت ذهب سيف الدين قطز والظاهر بيبرس لملاقاة المغول.
والآن ألا يرى احمد منصور، الذي كان يصرخ من رفح لأنه مُنع من الدخول إلى غزة، أن هزيمة اسرائيل -إن أردنا- تبدأ بالحرب ضد هذه الانظمة العميلة والخائنة!؟ أليس صحيحاً ما كان يقوله جمال عبدالناصر: «إن علينا أن نحارب الاستعمار في قصور الرجعية وأن نتصدى للرجعية في أحضان الاستعمار»!؟
أم أن الرجعية في نظر أحمد منصور ذات لون أخضر وهو يحب الأخضر ويمقت الكاكي؟! لكنه فيما أعتقد يعشق الكاكي إذا امتد منه الاخضر.
ثالثاً: إن هزيمة في حرب طويلة مع عدو زرعه الاستعمار لفصل مصر عن محيطها ليست نهاية الدنيا ولن تكون. وما حدث في اكتوبر ملحمة عظيمة اداها جيش مصر، ثم ما جرى في لبنان وحتى في قطاع غزة. والذين يجلدون الذات بالتوقف عند 1967 كما لو أنها نهاية التاريخ، إنما يريدون زرع اليأس في نفوس الاجيال القادمة لمنعها من أن تضع أقدامها على طريق التحرر والتقدم.
كذلك فإن إنجازات ثورة يوليو تبدأ من: «ارفع رأسك يا أخي»، إلى السد العالي والتصنيع الثقيل وكهربة الريف وتعميم التعليم ومجانيته وتحرير البلدان العربية من الاستعمار القديم وتبوؤ مصر مكانة بارزة على المسرح الدولي وغير ذلك من الانجازات الهائلة التي لا تستطيع عينا أحمد منصور الماكرتان والمتشفيتان أن ترياها.
ولقد كنت سمعت أن أحمد منصور منحدر من أسرة فقيرة فاستفاد من مجانية التعليم، احدى ثمار الثورة، ثم رأيته يتحدث بازدراء عن «الرعاع» في الشهادة نفسها. ومع ذلك فقد يجوز هذا الانسلاخ، ذلك أني أعرف النقيض من ذلك، فالاستاذ محمد سلماوي، الروائي والكاتب المسرحي، رئيس اتحاد كتاب مصر حالياً، ينتمي لأسرة ارستقراطية تضررت من الاجراءات الاشتراكية، إلا أنه من أشد الناس إيماناً بتجربة جمال عبدالناصر وانجازات 23 يوليو، إذ ينظر إليها من أفق أوسع من مصالح أسرته الصغيرة. وألم يكن المرحوم أحمد نبيل الهلالي، أبرز الشيوعيين الوطنيين، سوى ابن نجيب الهلالي آخر رئيس وزراء في عهد الملك فاروق!؟
وبعد فإن رجال ثورة يوليو هم وطنيون بلا استثناء، لكنهم بشر قبل ذلك وبعده، ومن طبائع البشر أن يختلفوا. وثمة حكاية رواها كاتب يساري في «روز اليوسف» منذ سنوات عن جمال عبدالناصر. قال إن الرئيس زار منظمة الشباب الاشتراكي والتقى أعضاءها وهم طلاب في الأصل. قال الرجل، وكان عضواً في المنظمة، إنه تجاوز وسأل جمال عبدالناصر: «أنت يا ريس ليه شلت بغدادي وكمال الدين حسين وحسن إبراهيم؟»، وامتعض الجالسون بجانب الرئيس وضربوا كفاً بكف، ورد هو بهدوء: «أنا يا ابني ما بشلش حد. بص احنا جماعة اتفقنا نروح رحلة وكل واحد قطع على المدينة اللي عايزها. واللي نزل في بنها واللي نزل في طنطا واللي بعد كده. ودلوقت ان شاء الله أنا وزملائي حنكمل لغاية الاسكندرية الاشتراكية. أنا ما بشلش حد».
وهكذا اتفق الجميع على تنقية الجيش من الفساد ثم على التخلص من الملك. ولما جاء الكلام عن عروبة ووحدة عربية في ناس ما عجبهمش، زي أحمد منصور. ثم لما بدأت الاشتراكية كمال الدين حسين خد نفسه ومشي.
وبقي أن علاقة عبدالحكيم عامر وجمال عبدالناصر ليس فيها سر يستدعي سؤال الجن، كما قال أحمد منصور. صديقان جمعتهما زمالة طويلة، ارتبطا ببعضهما بقوة، كلاهما شديد الوطنية، مع فارق أن الرئيس أكثر ثقافة وقدرة على نفاذ الرؤية وعلى السيطرة على الرغبات الخاصة. أما عبدالحكيم، ابن العمدة، فكان فيه من فيض النبل والشهامة ما جعله يعطي ويحمي ويعفو. كانت فيه رجولة أبناء الصعيد وفروسية نبلاء القرون الوسطى، ولذلك بقي الملاذ والحامي والمدافع عن كل من حوله وإن أخطؤوا. جعله هذا محبوباً في الجيش. لكنه مكن سيئي الضمائر والمقاصد من استغلال صفاته الحميدة، وكان كعب آخيل بالتحديد هو شمس بدران، فمنه أصيب، وبسببه أصاب مصر.
هي طبائع البشر إذاً، لم ينجُ منها صحابة الرسول، فاختلفوا بعد موته واقتتلوا وتفرق بهم الشمل وتشعبت السبل. فهل ينقص هذا من قيمة الرسالة وعظمتها وانجازاتها في شتى الشؤون!؟
لقد أطلت بما لا يستحق أحمد منصور أو جمال حماد.
براءة من زور القول (الثانية والأخيرة)
2009-02-26