اخلاقيات العمل الصحفي في التعاطي مع القضايا غير الاخلاقية* - عبدالباري طاهر
ينير العنوان أكثر من اشكالية بين الحرية والمسؤولية، وبين القيم والتقاليد المختلفة والمتنوعة من عصر لعصر ومن أمة لأخرى، بين ارادة الحرية والقيود المفروضة. وطالما والامر محصور في قضية الانتهاكات الجنسية فسنحصر التناول حولها.
يسود العقل المتخلف رؤية تقليدية ومحافظة ترى أن غض الطرف وإسدال الستار على الجرائم والفضائح والانتهاكات، الجنسية خصوصاً، هي الفضيلة كل الفضيلة؛ فالله «يحب الستر». ومثل هذه الرؤية لم تكن صائبة في الماضي أما في عصرنا الراهن فمستحيلة لماذا؟
لا شك أن الثورة التكنولوجية والمعلوماتية قد اكتسحت العالم. «الثورة الثالثة».
يقول ميلل إن الكمبيوتر، المتميز بشراهته التي لا تشبع للمعلومات، وقدرته على عدم الخطأ أو امكانية نسيان أي شيء، قد يصبح القلب النابض لنظام رقابة فعال يحول مجتمعنا إلى عالم شفاف ترقد فيه بيوتنا ومعلوماتنا المالية، واجتماعاتنا وحالتنا العقلية والنفسية والجسمانية كذلك، عارية تماماً مكشوفة أمام أي مشاهد.
لقد ذابت الحدود بين ما هو عام وما هو خاص، بين القضايا القومية والاسرار الشخصة. وأصبحت فكرة أن الحرمات الخاصة للفرد هي لب الديمقراطية مطروحة للجدل. وبعد أن استطاعت الوسائل التكنولوجية اقتحام مجال الحياة الخاصة لكل منا، وجدنا أن قضايا كانت حتى الامس القريب تعتبر سر الاسرار ومن أدق الخبايا الشخصية، مثل الخلافات الزوجية، أو العقد الجنسية ومصاعبها وخلافات الزوج والزوجة حولها الصحف صارت مطروحة للنقاش العلني عبر شاشات التلفزيون، أو على صفحات، دون أدنى إحساس بالخجل في المجتمع الحديث («دراسات اعلامية» العدد 93) يحدث كل ذلك بفعل التقدم التكنولوجي المسيطر على كل دقائق الحياة، خاصة في الغرب الصناعي، والذي عكس تأثيراته وبدرجات متفاوتة على باقي اجزاء العالم بعد أن أصبح وحدة مترابطة أيضاً بفضل التقدم التقني لوسائل الاتصال والاعلام والمواصلات في عالم أصبح يوصف بأنه القرية الالكترونية. وقد حدث كل ذلك رغماً عن التشريعات والقوانين التي تنص على حماية الحريات العامة والخاصة، وبالذات الحرمات الشخصية، ورغماً عن الاعلان العالمي لحقوق الانسان. (مرجع سبقت الاشارة إليه).
ولعل فضيحة: مونيكا/ كلينتون، ومأساة الاميرة ديانا، تكشفان أن الاسرار الخاصة والخاصة جداً أصبحت علنية ومكشوفة حتى في بلدان متخلفة، وتعالج التشريعات والقوانين في البلدان المتطورة، كامريكا وبريطانيا وقبلهما فرنسا، هذه القضايا، ولا شك أن التشريعات حول هذه القضايا يختلف في هذه البلدان المتقدمة جداً، كما أنها أيضاً غالباً ما تخضع للتجديد والتحديث استجابة للتطورات الكبيرة التي تشهدها.
فضيحة مونيكا/ كلينتون تؤكد أهمية الحرية وقوة الصحافة التي استطاعت كشف الفضيحة التي هزت أركان البيت الأبيض، ووضعت أقوى رئيس لأكبر دولة في العالم تحت طائلة المساءلة، وأخرجت حزبه من الحكم رغم الانجازات الكبيرة التي حققها.
تنص المادة 19 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية على الآتي:
1 - لكل انسان الحق في اعتناق الآراء دون أن يتعرض له أحد.
2 - لكل انسان الحق في التعبير، وحرية طلب جميع أنواع المعلومات والافكار، وتلقيها وإذاعتها دون أي حدود بالقول والكتابة أو الطباعة أو الفن أو أي وسيلة أخرى يراها.
3 - ينطوي استعمال الحقوق المنصوص عليها في الفقرة 2 من هذه المادة على واجبات ومسؤوليات خاصة يجوز لذلك اخضاعه لبعض القيود طبقاً لنص محدد في القوانين لتأمين الآتي:
أ- احترام حقوق الغير وسمعتهم.
ب- حماية الأمن القومي أو النظام العام أو الصحة العامة أو الآداب العامة.
الفصل التعسفي بين الحرية والمسؤولية، والخلط العام بين الحرية والفوضى والاساءة إلى الحرية باسمها، هي المسؤولية عن تشويه الحرية تمهيداً لقمعها. «إن حريتك تنتهي حيث يبدأ أنفي» كما يقول فلاسفة الانوار، ولا بد من التمييز بين حرية الرأي والتعبير والاساءة والقذف والتشهير، ولا علاقة بينهما بحال.
هناك صحف تقذف المحصنات، وتنتهك الاعراض، وتسيء إلى المرأة والطفل، وتمول من المال العام، ولا تنصاع لأحكام القضاء، على سبيل المثال: قضية الصحفية سامية الاغبري وصحيفة «الدستور».
تكاد أن تجمع كل القوانين والتشريعات في مختلف أنحاء العالم على قدسية وحرمة الحياة الخاصة، وبالاخص للاطفال والنساء، المحتاجين أكثر للحماية، والاعلان العالمي لحقوق الانسان -كما أسلفت- والعهدان الدوليان ينصان على توفير مثل هذه الحماية.
وقد تعرض مشروع ميثاق الشرف الاعلامي العربي المقدم من اللجنة الدائمة للاعلام بالجامعة العربية عام 2001 على: «الامتناع عن وصف الجرائم بكافة اشكالها وصورها بطريقة تغري بارتكابها، أو تنطوي على اضفاء البطولة على الجريمة ومرتكبيها والمحفزين عليها أو المروجين لها فرصة استخدام وسائل الاعلام منبراً لهم» (المادة الحادية عشرة)، وتنص المادة ال16 على «الحرص على حماية الاطفال والاحداث من المواد الاعلامية التي تتضمن مشاهد عنف أو أنماطاً سلوكية غير سوية تتناقض مع القيم النبيلة».
كما تنص المادة الحادية والعشرون على «عدم الخلط بين المواد الاعلامية والمواد الاعلانية، والتزام المواد الاعلانية بأخلاقية المجتمع العربي، وعدم استغلال الطفل والمرأة في الحملات الاعلانية بشكل يسيء لهما».
لا ينبغي التبرير للإساءة أو القذف والتشهير بأي شكل أو صورة، ولكن السلطات القامعة غالباً ما تتخذ من التشهير والقذف الذي تمارسه هي أو الصحف المحسوبة عليها ذريعة أو مبررا للمزيد من قمع الحريات العامة، والتضييق على الهامش الديمقراطي، ومصادرة حرية الرأي والتعبير، وتحديداً الحريات الصحفية.
والحقيقة أن انفجار ثورة المعلومات، وحرية تدفقها خصوصاً بفضل تكنولوجيا الاتصال الحديثة في العالم كله قد أثار ضرورة إعادة التوازن بين حرية الصحافة وحرية تدفقها وبين المسؤولية المهنية والاجتماعية للصحفي من جهة، وضرورة وضع حدود قانونية جديدة لضمان حرية الصحافة من جهة أخرى، وحماية الحياة الشخصية للمواطنين من جهة ثالثة، عبر مواثيق الشرف الصحفية أساساً. («دراسات اعلامية» العدد 81 اكتوبر/ سبتمبر).
والواقع أن كثرة القوانين والتشريعات وحتى مواثيق الشرف ولجان التأديب الصحفية لا تفيد، بل ولا تخدم حرية الرأي والتعبير. يقال دائماً أن أمراض الديمقراطية لا تعالج إلا بالمزيد من الديمقراطية. ويقينا فإن متانة الحريات العامة والديمقراطية، وتقوية الرأي العام المؤزر بحرية الرأي والتعبير، هي الضمانة الاكيدة للقضاء على التجاوزات، وعدم احترام حرية الغير أو المس بخصوصية الآخرين.
تتخذ السلطات القامعة من القوانين والتشريعات عصا غليظة لكبت الحريات ومصادرة الحق. ولا يمكن ازدهار الفساد والعنف والارهاب، خصوصاً ضد المرأة والطفل، الا في ظل الانظمة الدكتاتورية والشمولية. حرية الكلمة والرأي هي السلاح الآمن للتصدي لقول الانتقاص من حق المرأة، والاساءة إلى الاطفال سواء بالتجارة أو العنف أو العمالة أو الدفع للتسول. بين انطلاق الحرية والضبط الاخلاقي أن الحرية هي القوة تمنحنا القدرة على مواجهة الظلم والطغيان والقهر، وغيابها يعني الاستسلام أو الموت. وهناك ترابط عميق بين حرية الصحافة وحقوق الانسان. فحرية الصحافة هي التي تكشف الانسان، وبالاخص المرأة. كما أنها الوسيلة المثلى لنقد وفضح الغبن الاجتماعي، وانتهاك الدستور، والتلاعب بالقوانين، والعبث بالمال العام.
وتشير دراسة أعدتها اللجنة العالمية المعنية بالثقافة والتنمية باليونسكو إلى أهمية التوازن بين الحرية والمسؤولية الاخلاقية، وهل يمكن أن ينعكس على المستوى الدولي. إنه مع موازنة مزايا إتاحة الفرصة للتعرف على الاعلام الشعبي المعلوم ترتفع الاصوات في كل مكان من الشباب في فرنسا إلى الآباء في الفلبين، أو حتى المرشحين المحتملين لرئاسة الولايات المتحدة الامريكية، معبرة عن قلقها الشديد من المد المتنامي للعنف الذي ليس له مبرر والجنس الصريح واللغة والصور الكريهة التي تنتج وتوزع اليوم. وأكثر ما يخشاه الجميع هو تأثير مثل هذه المادة على الاطفال عنفاً من جانب من سئوا. (راجع: «دراسات اعلامية»، العدد100 يوليو/ ديسمبر ٢_٠_00) ويقول استرير لينجرين (إن اسوأ كلمة اعرفها هي عنف التسلية، وهي تعبيرنا السويدي عن العنف الروائي، أو عنف وسائل الاعلام، أن اولئك الذين في موقع يجعلهم يصنعون النقود من وسائل الاعلام من الواضح أنهم لا يرف لهم جفن لامكانية أن يصاب الف طفل بالأذى بسبب هذا العنف للتسيلة. وأنا أتساءل عن عدد الاطفال حول العالم الذين غرست فيهم هذه الصور التي تعذبهم لدرجة الجنون كل ليلة، إنها فكرة مروعة، إنني أود أن ألتقط فرشاة- فرشاة نامة، وأن ألمس بها جبين هؤلاء الاطفال المعذبين، أمسح عنهم كل الصور المخيفة التي استوعبوها. («دراسات اعلامية»، العدد ١_٠_٠_، مصدر سبقت الاشارة إليه).
الاغتصاب والاعتداءات الجنسية بحق الاطفال والنساء
من الخطورة بمكان الكشف عن هذه الجرائم البشعة خصوصاً في مجتمعات تقليدية. فالمجتمع التقليدي المحافظ يجري فيه التستر على جرائم من هذا اللون باسم المحافظة على القيم والاعراض وعدم اشاعة الفاحشة، والصحافة أو الصحفي الذي تقوم بالكشف عن وقائع من هذا النوع يصبح عرضة للمساءلة بل وربما للتنكيل. ولكن جرائم كهذه لا تجوز فيها الخفة وعدم الدقة، فهي مدمرة وكارثية، والافضل من تجاهلها أو التستر عليها أو الرعونة والخفة في كشفها، الشعور الانساني بخطورة هذه الجرائم على الاطفال والنساء المعتدى عليهن، واثر ذلك على أسرهن وبالتالي امتداد الاثر البالغ السوء على المجتمع ككل، وبل وعلى الانسانية في ظل الانترنت والقنوات عابراة القارات.
يشير الدكتور صلاح الدين حافظ، الامين العام لاتحاد الصحفيين العرب رئيس تحرير مجلة «دراسات اعلامية»، إلى قضية أتهام الصحافة البريطانية بالتسبب في مقتل الاميرة ديانا بسبب البحث عن مغامراتها ونشرها.
وملف قضية حرية الصحافة، وحرمة الحياة الخاصة مفتوح على مصراعيه بسبب أهمية تقنين العلاقة بين حرية الصحافة في أن تنشر ما تحصل عليه، خصوصاً إذا تعلق بالنجوم والمشاهير، إرضاء لنهم القراء.
وبين حق هؤلاء بل وجميع المواطنين في حماية حياتهم الخاصة واسرارهم الشخصية من الزيوع والانتشار والتداول بين العامة، عبر الصحف ووسائل الاعلام، وفي خضم كل ذلك انفجرت في مصر قضية اخلاقية أصدر النائب العام قراراً بحظر النشر عنها أثارت قدراً هائلاً من الجدل بعد أن توسعت بعض الصحف في نشرها بالصور والاسماء والوقائع التي تتناول نجومها. وثار السؤال من جديد: إلى أي مدى تمارس الصحافة حرية النشر في مثل هذه القضايا خصوصاً الاخلاقية؟ وهل لها حق نشر الاسماء المتورطة، واستقاء تفاصيل تورطها من جهات الضبط والتحقيق؟ وما هو رد الفعل إن حكم القضاء فيما بعد بالبراءة سواء لعدم وقوع الجريمة أصلاً، أم لعدم ثبوت الادلة، أو لبطلان إجراءات الضبط؟
ويؤكد الدكتور والخبير الاعلامي صلاح حافظ -ومعه حق- «أننا مع مبدأ أن الحرية مسؤولية، ومن مسؤولية حرية الصحافة عدم التورط أصلاً في كل ما يمس حرمة الحياة الخاصة كمبدأ. ثم عدم التزيد في نشر تفاصيل الفضائح والسقطات الاخلاقية، وقضايا الآداب، وجرائم الاحداث، ليس حماية لمرتكبيها ولا دفاعاً عن حياتهم وحرمتها الخاصة، ولكن حماية لقيم المجتمع وآدابه العامة واخلاقه القويمة، ويضيف: «واذا كانت هناك ضرورة في النشر، فهو يتم بعد صدور حكم قضائي نهائي وبات، حيث تصبح التهمة ثابتة عبر النظر أمام درجات القضاء المتدرجة. أما التسرع بالنشر عند الضبط أو من خلال محاضر التحقيق الاولية فهي مخاطرة غير محسوبة، توقع الصحف والصحيفة في جريمة التشهير والقذف، اذا ما صدرت احكام البراءة فيما بعد. ومن مصلحة الصحافة وصيانة لحريتها وحماية لمسؤوليتها أن تتجنب كل ذلك بإرادتها». («دراسات اعلامية» عدد 8٩_).
بعد مقتل ديانا أصدرت لجنة شكاوى الصحافة في بريطانيا، وهي هيئة مستقلة، ما أسمته بـ«ميثاق السلوك والممارسة في الصحافة» (يلتزم الصحفيون في معالجة قضايا حرمة الحياة الخاصة، دون أن يدعي أحد أن مثل هذا الميثاق الاختياري يشكل قيدا على حرية الصحافة).
تقول المبادئ الرئيسية للميثاق:
1 - أنه يجب على الصحف عدم نشر المواد المضللة والمشوهة، وغير الدقيقة، واذا ما حدث فإنها مجبرة على نشر الرد وبالاعتذار أيضاً.
2 - لا تنشر مواد عن الحياة الشخصية للمواطنين بدون موافقتهم الصريحة، بما في ذلك استخدام عدسات مكبرة كتصوير مواطنين داخل منازلهم أو ممتلكاتهم الخاصة إلا إذا ثبت أن ذلك حدث للصالح العام.
3 - يمكن تعريف الممتلكات الخاصة بأنها: محل الاقامة متضمناً الحديقة أو المباني الملحقة وحجرات النوم في المنازل أوالفنادق، واماكن علاج المرضى.
4 - يجب على الصحفيين عدم الحصول على أو نشر أية مواد جرى استقاؤها باستخدام أجهزة تنصت سرية.
5 - لا يجب على الصحفيين استخدام الخدع والحيل، بما في ذلك ادعائهم أسماء أو شخصيات أو التخفي للحصول على معلومات أو صور.
6 - يجب على الصحفيين عدم الحصول على المعلومات من خلال المضايقات أو الابتزاز أو التهديد أو التخويف.
وقد اختص هذا الميثاق الاختياري قضيتي الاطفال والجرائم الجنسية والاخلاقية بجانب مهم من مدونة سلوك الصحفيين، فأكد على ضرورة عدم الاقتراب أو تصوير أطفال في مدرسة بدون الحصول على إذن مسبق، وعلى عدم إجراء تحقيقات أو حوارات مع الاطفال دون سن 16 سنة في موضوعات تتعلق بسعادة ورفاهية الطفل بدون إذن الوالدين، وعلى عدم تعريف الاطفال تحت السن نفسها التي يتورطون فيها بالجرائم الجنسية، وعلى عدم استخدام الاتصال الجنسي في مثل هذه الحالات.
ثم عاد فأكد على أن يجب على الصحافة عدم تعريف ضحايا الجرائم والاعتداءات الجنسية، أو نشر أية مواد تساعد على التعرف عليهم الا اذا كان هناك مبرر كاف.
وبصرف النظر عن حب النميمة، والنهم إلى الاثارة، الذي يحكم بعض الصحف وبعض قطاعات القراء، فإننا نعتقد أن إعمال مرجعية مبدأ أن حرية الصحافة مسؤولية، وأن تنشيط صحوة الضمير الاخلاقي والمهني، وأن الاسترشاد بما جاء في هذا الميثاق البريطاني، يساعد كثيراً في حماية الصحافة وحريتها وشرف كلمتها وجسامة مسؤوليتها من مخاطر الانزلاق، ومن مخاطر الاختراق، خصوصاً وأن الانزلاق والاختراق يضغطان الآن بقوة الترغيب والترهيب في وقت واحد على الصحافة والصحفيين في كل المجالات السياسية والفكرية المهنية والاخلاقية، الاجتماعية والمالية. «دراسات اعلامية»، العدد 89، مرجع سابق.
الحريات الصحفية وحقوق الانسان
هناك جدل تاريخي وترابط عميق بين الحريات الصحفية وحقوق الانسان، فهما مترافدان، ومتلازمان حد استحالة وجود حريات صحفية بدون احترام لحقوق الإنسان، واحترام حقوقه لا يعبر عنها الا بحرية الرأي والتعبير. «الحريات الصحفية».
لقد ترابطت قضية حقوق الانسان بقضية حرية الصحافة ترابطاً عضوياً منذ البداية، وشهدت القضيتان عبر عصور التاريخ نضالاً مشتركاً، وإن كان تحت مسميات أو أشكال مختلفة، ذلك أنهما كانتا وما زالتا تثيران أعمق ما في الانسان من اهتمام ومشاعر فكرية وروحية، وكانتا معا أخطر القضايا التي أثارت الضمير الانساني عبر العصور، وألهبت الصراعات، وأشعلت الثورات، وقلبت النظم مهما كانت قوتها وبطشها (احزان الصحافة، صلاح الدين حافظ).
والسبق الصحفي أصبح غير محدود أو مقيد بالجغرافيا والنظم السياسية والحدود القومية مهما تنوعت وتعددت، ولكنه مقيد بحرية ملتزمة بالضمير، وألاَّ تطال حريات وخصوصيات الآخرين، فالمادة ال19 من الاعلان العالمي لحقوق الانسان تنص على أن «لكل فرد الحق في حرية الرأي والتعبير (وهذا يعني ضمنياً حقه في الحصانة من أجل آرائه) ولكل فرد الحق في البحث عن المعلومات والافكار ونشرها بأي وسيلة من وسائل التعبير، وبغض النظر عن أي حدود».
وهناك ترابط عميق ومتجدد بصورة مذهلة بين حرية وحق الاعلام وبين حرية الاتصال والحق في الحصول على المعلومات، وهو حق تكفله الشريعة الدولية والاعلانات العالمية ودساتير الدول المختلفة. فحقوق الانسان، بما فيها حقه في الاتصال والحصول على المعلومات بدون ضغوط أو قيود تتصاعد وتتجدد كل يوم مثلما تتصاعد وتتجدد احتياجاته المختلفة.
لا شك أن التقدم التكنولوجي قد افرز مخاطر على حرية البشر. ويشير الدكتور صلاح حافظ إلى بعض منها:
- انتهاك الحريات الخاصة، عن طريق اجهزة التنصت والتسجيل والتصوير الحديثة.
- اهتزاز الشخصية الانسانية عقلياً ونفسياً وجسدياً.
- قهر حقوق الانسان عن طريق القيود التي ابتدعتها الوسائل الالكترونية المعقدة.
- اختلال التوازن بشكل عام بين التقدم التكنولوجي والعلمي والمادي وبين التقدم الفكري والرقي الروحي والاخلاقي والحضاري للبشر.
وفي مواجهة هذه المخاطر الجسيمة الناتجة عن حالة التناقض الواضح بين التقدم التكنولوجي المكتسح، وبين الحريات العامة والخاصة المتقهقرة، شهدت سبعينات هذا القرن (الماضي) وثمانيناته موجة ضخمة من المطالبة بإنقاذ البشرية من كارثة محققة تقدم عليها بيديها، وتنساق إليها نتيجة ما افرزته عقولها من ثورة علمية وتكنولوجية. فتركزت هذ المطالب على تحقيق ثلاثة أشياء أساسية خلال عقود التنمية (تقرير اللجنة الدولية لحقوق الانسان التابعة للامم المتحدة مارس 1971):
أ- حماية حقوق الانسان في المجالات الاقتصادية والثقافية والاجتماعية طبقاً للموارد القومية والمستويات العلمية والتكنولوجية.
ب- استغلال التقدم العلمي والتكنولوجي في تدعيم احترام حقوق الانسان وقيمه الاخلاقية والروحية.
ج- خطر استخدام التقدم العلمي والتكنولوجي في كبت الحريات الاساسية وتقييد الحقوق الديمقراطية.
واذن لا بد من تحديد الحريات الفردية، والحرمات الشخصية المعتدى عليها.
وقد حددت منظمات القوانين الدولية هذه الحقوق على النحو التالي:
يتمثل حق الفرد في أن يترك حراً لنفسه يعيش حياته في ظل الحماية ضد:
1 - التدخل في حياته الخاصة والعائلية والمنزلية.
2 - التدخل في تكامله الجسماني والعقلي أو حديثه عن مبادئه أو ثقافته.
3 - التهجم على شرفه وسمعته.
4 - كشف المواقف المحرجة غير الهامة في حياته الخاصة.
5 - استغلال اسمه أو شخصية شبيهة له.
6 - التجسس والتلصص والمراقبة.
7 - الرقابة على مراسلاته.
8 - الاستغلال السيئ لاتصالاته ومراسلاته التحريرية أو الشفهية.
٩_-استغلال المعلومات الخاصة به من خلال ملف عمله أو مهنته.
10 - وضعه تحت أضواء مضللة وخادعة (وثائق مؤتمر منظمة القانونين الدوليين، استوكهولم، مايو ١_967).
أن الاخطر من معدات التنصت والتجسس والتسمع التي صارت شائعة الاستعمال في ممارسة الرقابة على الحريات العامة والخاصة على السواء، هو اخطبوط جديد يتمثل ببساطة شديدة في استخدام المعدات التقنية الجديدة في انتهاك الجسد والعقل والاعصاب لانتزاع معلومات محددة أو اعترافات مطلوبة من الانسان. (احزان الصحافة مرجع سابق).
وقد نشأت خلافات شديدة في أكثر من مجتمع حول التناقض الظاهر على الاقل بين حرية البحث عن الافكار والوصول إلى المعلومات ونشرها وتوزيعها عبر وسائل الاتصال، خاصة الصحافة والاذاعة، وبين حق الافراد في صون حياتهم الشخصية، والتمتع بخصوصية لا يجوز التجرؤ عليها، أو كشف اسرارها.
في الاخير اشكر الزملاء في «سياج»، وتحديداً الزميل العزيز احمد القرشي على اهتمامه بقضية المرأة والطفل وهي قضية راهنة ومؤرقة وتحتاج إلى أكثر من ندوة وبحث ودراسة ويقظة ضمير.
* ورقة مقدمة لندوة "نتائج التناولات الإعلامية لصور وأسماء ضحايا الانتهاكات الجنسية من الأطفالـ".
اخلاقيات العمل الصحفي في التعاطي مع القضايا غير الاخلاقية*
2008-09-25