عند كل حصاد.. لا نجني غير الشوك - يحيى سعيد السادة
كثيرة هي المواسم التي مرت بنا. قيل لنا عند اقتراب كل موسم إن حصاد هذه المرة سيسخر ريعه للنهوض بالوطن أرضاً وشعباً وما على الناس إلا أن يشمروا عن سواعدهم ويصقلوا حناجرهم بغية الإسراع في جني المحصول قبل أن ينقض عليه الطير. سبعة مواسم انتخابية. أكثر من تشكيل وتعديل حكومي. تشكيل اللجنة العليا للانتخابات ومن ثم توسعة عضويتها؟ جميعها مواكب أعراس شهدها الوطن على مدى سبعة عشر عاماً، المواطن في خضم أحداثها مجرد أطرش؛ إذ تنحصر مهمته في أن يصدح بصوته ويحرك يديه في كل الاتجاهات حتى يشار إليه بالتوقف إيذاناً بانتهاء المهمة التي روض على أدائها. إذ عندما يصبح المواطن صالحاً لمهمة الاقتراع أياً كان عمره القانوني تتكفل السلطة بترويضه بحيث تعيده إلى مراحل نشأته الأولى من حيث تسليته وإلهائه ولكن بطرق ووسائل حديثة مأخوذة من أبحاث ودراسات في علم النفس تجعله يتصور أن حصاد كل موسم وريعه من نصيبه ولا يخص أحداً سواه. دون أن يسأل نفسه ولو لمرة واحدة ماذا جناه من كل تلك المواسم السابقة؟ فجميع التشكيلات والتعديلات الوزارية التي هلل لها المواطن ونسج من خيوطها أحلامه وآماله في الخروج من مآزقه ومحنه وأزماته لم تحقق له ولو جزءا من أوهامه. إذ لا شيء ظهر في الأفق غير ظهور طبقة اجتماعية جديدة تسمى الوزراء، تمكن كل واحد منهم خلال فترة وجيزة من خلال الإمكانيات العينية والمادية المتاحة أن يصلح أوضاعه وأوضاع من يدور في فلكه مقابل تدني معيشي لعامة الناس تسارعت آثاره المخيفة منذ عام 2000 وحتى هذه اللحظة دون أية معالجات تذكر. فما إن يفرغ الوزير من أداء اليمين الدستورية حتى تفتح عليه أبواب النعيم بدءا بما يسمى بمخصصاته من سيارات وسكن وأثاث واعتماد، مروراً ببهلوانياته وفهلوته إن كان كذلك لينتهي به المطاف في قائمة الأثرياء. كل ذلك يحدث في ظل جهاز مركزي شبه مشلول ونيابة أموال عامة لا حول لها ولا قوة. فمن من الوزراء المتعاقبين منذ عام الوحدة وحتى الآن أحدث تغييراً إدارياً في وزارته أو فروعها في المحافظات على اعتبار أن الضعف في الأداء ناتج عن أشخاص وضعوا في أماكن لا تتناسب ومقاسات عقولهم. لا أحد من أولئك الوزراء تجرأ على فعل ذلك أو فكر به مجرد التفكير؛ كون وقته لا يسمح إلا بمتابعة مصالحه والحفاظ على خط سباقه في مضمار سباق الوزراء نحو تحقيق الرقم القياسي في الثراء. فمجمل الوكلاء ومدراء العموم ومدراء الإدارات خلال هذه الفترة الطويلة محنطين في كراسيهم، كل واحد منهم يستمد هيبته وبقائه من عصا سليمان. وكأن الأمهات لم تعد تلد رجالاً وأن الأرض قد توقفت عن الدوران. ثم يأتي من يسأل: لماذا لم يتطور هذا البلد؟ أي تطور هذا الذي ينشده السائل في ظل هذا الجمود؟ وأي أمل يراوده في أن تعاود الأرض دورانها طالما بقى هؤلاء المحنطون في مقاعدهم؟ لقد أصيب الجهاز الإداري نتيجة هذا الخلل بالجمود والشلل، فيما أصيب الناس بالسأم والملل والغثيان والاحباط. تضاعف هذا الشعور بمضاعفة الأعباء المعيشية التي بدأت عدها التصاعدي عام 1990 نتيجة الأحداث الإقليمية وضعف الأداء الداخلي جراء التجاذبات الحزبية وما واكبها من تحالفات تركزت اهتماماتها على الجانب السياسي مقابل إهمال الجانب الاقتصادي الذي أفرز في الأخير وضعاً معيشياً مزرياً أسهمت به جميع قوى التحالفات ولكن بنسب متباينة وفق الفترة التي استمر كل منها على كراسي السلطة. زاد من تفاقمه الانجرار نحو تقاسم الدرجات الوظيفية دون الأخذ بمعيار الكفاءات والمؤهلات الأمر الذي أدى إلى خلط كثير من الأوراق وزج بكثير من المعوقين إدارياً إلى واجهة العمل الوظيفي. فوزارة الصناعة والتجارة واحدة من الوزارات الذي تناوب على إدارتها ثلاثة أحزاب رئيسية تنافسوا جميعهم على رفع أسعار المواد والسلع من البيضة حتى طن الحديد دون التفات أي منهم إلى ضرورة إحداث تغيير إداري فيها وفروعها من خلال استحداث برامج واستقطاب تخصصات في هذا المجال بغية انتشال الوزارة من وضعها المتعثر ورفع مستوى أدائها ليتناسب مع حجم مسؤولياتها؛ إذ لم يطرأ جديد على هذه الوزارة حتى هذه اللحظة غير التصاعد في أسعار السلع. ولتذكير المتعاقبين عليها نورد بعض السلع الأساسية والاستهلاكية وأسعارها خلال فترتين زمنيتين لمعرفة ما أسهم به كل واحد منهم من خراب ودمار لحياة كثير من الأسر.
هذه العينات من السلع مجرد نماذج تنسحب عليها بقية السلع والمواد المتداولة في الأسواق والتي في مجملها شكلت كارثة معيشية تتحمل مسؤوليتها جميع الحكومات المشكلة والمعدلة خلال سبعة عشر عاماً وبالأخص فيما يتعلق بأسعار المنتجات المحلية كما هو موضح في الجدول. أسميها كارثة ليقيني أن أسرا عديدة كانت في فترة ما قادرة على شراء هذه السلع إلى أن شلت قدرتها وأصبحت عاجزة تماماً عن تناولها. أسميها كارثة أيضاً كي أوقظ القانون رقم 5 المتعلق بالتجارة الداخلية والموقع من قبل الأخ الرئيس بعد الموافقة عليه من مجلس النواب الذي ينص في مادته 25 على أنه يجوز بقرار من مجلس الوزراء بعد موافقة المجلس تحديد السقوف العليا لأسعار السلع الأساسية في حالة الطوارئ والكوارث. إلى هنا ينتهي النص. وبدورنا نسأل: ألم يحن الوقت -بعد وصول أسعار هذه السلع إلى هذا الحد المخيف- أن نحدد سقفا لهذا الارتفاع على اعتبار أن ما نحن عليه من وضع معيشي هو وضع كارثي ما لم يكن هنالك تفسير آخر للكارثة وما هو حجم التضحية التي يجب أن يقدمها الناس لتصبح كذلك؟ لا شك في أن الغوص في تفاصيل أداء بقية الوزارات وبالأخص الخدمية منها، سيقودنا إلى نتيجة واحدة هي أن مجملها على شاكلة تلك الوزارة من حيث اللامبالاة واللامسؤولية، بحيث تكون المحصلة ضعفا وتدنيا في الأداء مرده في الأساس عجز وضعف الجهاز الرقابي المتمثل بمجلس النواب الذي يعاني هو الآخر من نقص كبير في التخصصات نتيجة اعتماد الأحزاب المتنافسة عند كل استحقاق انتخابي استراتيجية الأستحواذ على أكثر من مقعد بغض النظر عن خلفية المرشح العلمية والثقافية؛ إذ اعتمد الحزب الحاكم عند اختيار مرشحيه على مركز المرشح التجاري والمشيخي، بينما اعتمد حزب الإصلاح على خطباء المساجد، حتى وإن قيل إن بعضهم يحمل شهادات فهي محصورة في مجال الدين ولا علاقة لها باهتمامات المجلس واختصاصاته وقضاياه الشائكة في مجال السياسة والمال والاقتصاد وأمور فنية أخرى يصعب فهما. نقيس على هذا أداء المجالس المحلية، التي يصعب على كثير ممن وصلوا إلى مقاعدها فهم اختصاصاتهم رغم طول الفترة التي أمضوها. من خلال تعصبهم وممارستهم للمناطقية وعدم قبول الآخر كونه لا ينتمي للدائرة.
عزاؤنا في ما نحن عليه من كرٍّ وفرٍّ في معيشتنا وتفاصيلها اليومية، في أن تغير الأحزاب من سياساتها عند اختيار مرشحيها. فالوطن يزخر بالطاقات والإمكانيات البشرية القادرة على الإسهام بتغيير هذا الواقع المؤلم إلى واقع أكثر إشراقاً وتألقاً.
عزاؤنا في أن تتم مراجعة الذات من قبل الكثير ممن تستهويهم لعبة الترشح حتى لو دفعت بهم الأحزاب الى أتون هذه اللعبة. إذ عليهم أولاً أن يتحسسوا رؤوسهم لقياس ما تختزنه من علم وثقافة حيث سيشكل هذا المخزون الطاقة المستقبلية لتشغيل وطن بأكمله بغية انتشاله والدفع به إلى آفاق رحبة.
عزاؤنا في الهيئة المشكلة حديثاً والمعنية بالفساد والفاسدين والتي بصم على أسماء أعضائها الأخ الرئيس وتعهد بدعمهم ومؤازرتهم في أن تسرع هذه الهيئة بتقديم عينات من أولئك الفاسدين كعربون مصداقية. فحيثما توجهت الهيئة وحيثما ألقت شباكها ستعود بالصيد الثمين لأعداد ونوعيات وألوان يحسدنا عليها الغير، كما نُحسد على طول شواطئنا.
عزاؤنا الأخير في أن يظل المواطن على اعتقاده بأن حصاد الموسم القادم هو أيضاً من نصيبه، ولكن إذا أحسن هذه المرة جني المحصول وانتفع بريعه. ما لم فإن الشوك في انتظاره لست سنوات قادمة.
عند كل حصاد.. لا نجني غير الشوك
2007-07-26