د ياسين سعيد نعمان- المقطع الخامس من:«أصل الحكاية.. كما يرويها عبدالمرتجي البواب»
د. ياسين سعيد نعمان
المقطع الخامس:
كان عبدالمرتجي يطل لأول مرة على اوضاع العرب خارج القطر المصري من خلال هذا السياسي، فتروعه الإنتكاسات التي اصابت الثورات العربية..
وفيما يحاول أن يجد تفسيراً لهذه الانتكاسات بتصميم نموذج ذهني للقائد الثوري بصفات «جيفارا» مثلاً، فإنَّه يتوصل إلى حقيقة هامة، وهي أنه عوضاً عن أن معظم الزعامات الثورية العربية لم تنتجها الأدغال وحروب التحرير الشعبية، وإنما الانقلابات العسكرية الخاطفة، فإن السلطة بطبيعتها لا يمكن ان تتعايش مع الحالة الثورية.
فالحالة الثورية تفقد زخمها مع الوصول إلى السلطة. وهناك تبدأ مرحلة جديدة تتبدد فيها الميول الثورية في الصراعات الداخلية بهدف الاستئثار بالسلطة والسيطرة على القرار.
تكمن المشكلة في عدم التفريق بين قيادة الثورة وإدارة الدولة. قيادة الثورة عملية رأسية يكون فيها القرار في الغالب مطلقاً ويرتب آثاره المباشرة حصراً على اولئك المنتسبين للثورة. أما إدارة الدولة فهي عملية مركبة لأن القرار يرتب آثاراً مباشرةً على المجتمع كله، وبالتالي فهو غير مطلق، أي أنه مقيد بطبيعة الآثار التي سيرتبها على صعيد المجتمع، ومن ثم بموقف الناس منه. بواسطته تخرج الثورة إلى الناس ومن خلاله تتحدد علاقة الناس بهذه الثورة، ليس كمتلقين لنتائج القرار فحسب، ولكن كمشاركين في صناعته.
ومما سجله عبدالمرتجي على لسان هذا السياسي ملاحظتين جديرتين بالاهتمام:
الأولى: أن بعض النخب تأتي إلى الحكم بواسطة المؤسسة العسكرية، وتكون واجهة لقوة سياسية ذات فكرة ايديولوجية صدامية، ويكون وصولها إلى السلطة بداية لمرحلة جديدة من الصراع الذي يستهدف تصفية القوى الأخرى.
يحدث هنا أن إدارة الدولة تبقى لفترة طويلة إمتداداً لنظام قيادة العملية الإنقلابية (او الثورة، كما يطلق عليها). ولن يكون الإنتقال ممكناً دون تنازل -مقبول اجتماعياً- عن قدر من القرار السياسي لصالح الشعب ومؤسساته المدنية. غير أنه لما كانت هذه النخب تحكم بمرجعية ايديولوجية تحتكر الحقيقة، فإن الأرضية السياسية التي تتحرك فيها لا بد أن تُشتق من داخل مشروع هذه الأيديولوجية، ويصبح تنازلها عن قدر من القرار السياسي محكوماً بطبيعة المؤسسات التي تنشئها، أي أنها في الحقيقة تتنازل لمؤسساتها وليس للشعب. وهذا ما يحدث أيضاً مع الأنظمة المستبدة عموماً.
هذا يعني أن عملية الانتقال تأخذ بعداً صدامياً..
الملاحظة الثانية: هي أن الأيديولوجية التي تتخذ صورة «الدوغما» تفقد وهجها بعد فترة من الزمن، حتى بين أعضائها؛ والسبب هو غياب الأدوات السياسية المرنة التي تسمح بإدارة حوارات مع فرقاء الحياة السياسية. والأيديولوجية لا تتجدد تلقائياً من داخل نفسها وبمعزل عما يحيط بها من ثقافات وأفكار وآراء. ومالم تعتمد على قوة الحجة بدلاً من قوة السلطة فإنها لا تصمد أمام متغيرات الحياة.
وقد لفت إنتباه عبدالمرتجي أن محدثه السياسي استخدم تعبير «العملية الإنقلابية» لوصف ما تم التعارف عليه بالثورة، وهو ما اعتبره تحولاً هاماً في أدب الثورة العربية الذي ظل يعرف كل انقلاب عسكري على أنه ثورة بغض النظر عن الأبعاد السياسية والثقافية والاجتماعية لهذا الإنقلاب وما يحدثه من تغيرات عميقة او سطحية في حياة المجتمعات.
ويذهب في حديثه إلى ما هو أبعد من ذلك، حيث يرى أن العرب لم يعرفوا ثورة بالمفهوم الذي يعبِّر عن إرادة الشعب في التغيير.
فهذه الإرادة تظل مغيبة ومستثناة في كل مراحل «الثورة». النخب تتولى كل شيء نيابة عن الشعب. فهي تقوم بـ«الثورة» نيابة عن الشعب، وتستولي على السلطة باسم الشعب. وحينما يطالب الشعب بإشراكه في إدارة شؤون حياته كما وعدته «الثورة»، لا يجد سوى البنادق مصوبة إلى صدره.
لم تفعل «الثورات « العربية شيئاً لإيقاظ الشعوب من سباتها. قفزت فوق سباتها، تركتها تغط في نومها، تهزها الألغام المتفجرة وهي في مرقدها.
«الثورات» على شاكلة ما شهده العرب زمن ثوراتهم لم تفتح نافذة إلى العصر وإلي الحرية، لكنها فتحت مزيداً من الأبواب إلى السجون، عدّلت مضمون التهمة وعنوانها وتفننت في إبتداع وسائل جديدة للعقاب.
لاحظ عبدالمرتجي أن صاحبه السياسي كان يتدفق في حديثه كشلال ماء احتجز وراء سد إنهار فجأة. وكانت آخر ملاحظة قالها هذا السياسي «المحبط» هي:
«انظر يا صديقي إلى القوى التي آلت إليها «الثورات» وإلى الطريق الذي انتهت إليه، لتكتشف حالة الإغتراب التي حكمت علاقتها بالشعوب التي قامت من أجلها».
قال عبدالمرتجي:
«علينا أن نبحث بموضوعية عن الأسباب التي جعلت «ثوراتنا» ترفع شعارات الحرية والمساواة.. الخ، وتقلب لها ظهر المجن في الممارسة لينتهي بها المطاف إلى أبواب السجون وأقبية التعذيب. ليس هناك خلل في الفكرة التي نشأت مع الحاجة التاريخية لإصلاح الأمة؛ الخلل يكمن في طبيعة القوى التي آلت إليها « الثورات» بداية ونهاية.
كل ما يسجله تاريخ القوى التي تسلمت رايات الحكم «الثوري» هي أنها نجحت في القمع وأخفقت في بناء أنظمة للحكم تعيد تجديد نفسها بالحرية والعدل والمشاركة الشعبية.
في بعض الأحيان هناك منجزات أشبه بالنُّصب التذكارية، يضع فيها الحاكم جل جهده وكل طاقات البلاد، وكأنها إنما صممت لتخليده.
هذه «النُّصب» يستعين بها الحاكم لتشديد القمع كحجة على نجاحه في البناء. بينما هي في الحقيقة مجرد منشآت لا تعني الكثير عندما يتعلق الأمر بتفكيك مفاصل التخلف، وصياغة موقف حاسم منه يبدأ بالإنسان وينتهي عنده.
ثقافتنا يا سيدي مستمدة من تاريخ مصنوع في كثير من مراحله من منشأة واحدة، مختزل فيها، هي كل ما نستطيع ان نقف أمامه ونفاخر به. ولا غرابة بعد ذلك أن نجد حكامنا يقتفون هذا الأثر في تخليد ذكراهم بمنشأة من هذا النوع، يختزلون فيها الإنسان، حتى إذا حان ميعاد جرد المنجزات في وقت لاحق، توارت حرية الإنسان وكرامته وكل ما لحق به من عبث خلف هذا «المنجز».
ومع ذلك هناك فرق جوهري بين منشأة اليوم ومنشأة الأمس: منشأة الأمس كانت تعكس منجزاً حضارياً ثورياً لعقل الإنسان في البلد الذي تقام فيه، أما منشأة اليوم - المنجز، فإنها تقام بأيدٍ أجنبية وتستخدم عقلاً اجنبياً وتسلم جاهزة. لا يعرف العقل «الوطني» عن سرها إلا القليل، فهي امتداد للعقل الذي يتولى إنشاءها. أما البلد الذي تقام فيه فهو أشبه بالرحم المستأجر (وهنا شدد عبدالمرتجي على العبارة) لا أقل ولا أكثر.
وحتى منشأة الأمس التي تشكل جانباً من شخصيتنا، لا يتم دمجها في ثقافتنا المعاصرة سوى بأدوات أجنبية، وتحت عنوان أكبر: «الحفاظ على التراث الإنساني». فالذي يكتشفها ويؤرخ لها أجنبي، والذي يعيد تأهيلها ويصونها أجنبي، أما نحن ففي موقف محايد مما يجري لا نملك سوى التصفيق للإكتشاف الذي نحاول أنْ نعيد العلاقة معه عبر الحبل السري الذي يظل بيد الأجنبي.
و أصل الحكاية ياسيدي هي أن «ثوراتنا» تقاعست عن اكتشاف كُنْه المعرفة التي اختزنتها تلك المنشأة القديمة، فكرست الإنقطاع الذي سجلته عهود الجمود، وراحت تقلد الشكل الخارجي لها، وساومت به العقل، فكانت ثورة في شكلها الخارجي وجموداً في مضمونها.
عجزت عن أن تحقق ثورة في العقل وفي المعرفة لأسباب كثيرة، منها أن ثورة العقل تحتاج إلى زمن يتجاوز فترة حكم «الزعيم»، وإلى تراكمات معرفية لا تتسع لها إهتماماته.. ولذلك فهو يفضل «المنجزات» السريعة التي تسجل بإسمه بغض النظر عن أثرها في مراكمة المعرفة الوطنية وتحفيز العقل.
على أن التجربة قد سجلت على الدوام إخفاق مثل هذه «المنجزات» في إحداث مثل هذا التراكم المعرفي، وأسندت إلى العقل «الوطني» مهاماً ثانوية أبقته في حالة غربة عما يجري حواليه.
وبالتدريج بدأ التنافر يسود علاقته بـ«الثورة» بعد أن اتجه مسارها صوب تخليد «الزعيم» بمنجزات من صناعة العقل الأجنبي، وتكريسه كمجدد لـ«ثقافة المنشأة الواحدة» ولكن بلا مضمون معرفي. وأخذ هذا العقل ينكمش داخل صينية الطعام الذي سمحت به دولة «الثورة» لأسباب تقشفية، وكان هذا تعبيراً عن أسوأ مظاهر القمع التي تعرض لها العقل العربي المعاصر: محاصرته في صينية الطعام المعدَّة سلفاً داخل مطبخ الحكومة، حتى أن حريته التي بشر لها لم تعد تتجاوز ما يسمح به الخيار المتاح داخل هذه الصينية. والعقل المتعظ هو الذي لن يترك صاحبه يتضوَّر جوعاً.
حوصر العقل العربي داخل الحاجة البيولوجية لصاحبه كانعكاس لحاجة دورة الحياة في أبسط صورها. أما وقد تعقدت على النحو الذي عليه الإنسان المعاصر، فذلك أمر يضع العقل العربي في مواجهة حقيقية مع نفسه أولاً.. حريته تبدأ من داخله لا من خارجه. الحرية من الخارج وهم، حتى لو جاء من يهب الحرية للعقل من خارجه وهو مغلق على مفاهيم الولاء التي انتجها الإستبداد، وكرستها الفاقة والعوز، وتوغلت في النفس عبر مرجعيات أكسبتها صفة القدسية، فلن يكون اكثر من «طارق على تابوت ليوقظ من بداخله» على حد تعبير تشيخوف».
المقطع الرابع
المقطع الثالث
المقطع الثاني
المقطع الأول
د ياسين سعيد نعمان- المقطع الخامس من:«أصل الحكاية.. كما يرويها عبدالمرتجي البواب»
2006-05-24