الأفئدة الثلاثة - عبدالباري طاهر
كانت السبعينات بداية انعقاد الثمار التي زرعتها مسيرة التمدن والتحديث منذ الأربعينات والخمسينيات، وتفتقت أكمامها في سبتمبر 62 واكتوبر 63. وآتت أكلها في بداية السبعينات كعطاء لخفوت صوت المدافع.
ففي أواخر الستينات أحرز الجنوب الاستقلال بخروج آخر جندي بريطاني. وفي صنعاء وبعد خروج الجيش المصري، تمكن شباب الجيش والأمن والمقاومة الشعبية من دحر حصار السبعين الذي كان الاعلان الداوي بانتصار الفئات الوسطى في المجتمع اليمني من أبناء المزارعين والحرفيين والمدكنين والعمال والطلاب والمثقفين.
كان الطلاب هم الفئة الأكثر ألقاً وتوهجاً في سماء اليمن كلها. وكانوا الاقرب للمعرفة والعصرية. واتجاهاً للحداثة، فقد انخرطوا في الاضرابات والمظاهرات وحملوا السلاح.
وكانوا طليعة تكوين المجتمع المدني الحديث. فقد وصلوا إلى قيادة المقاومة الشعبية، والتكوينات الحزبية والنقابية التي بدأت أو أعيد تكوينها في تلكم الفترة: الحزب الديمقراطي الثوري، حزب العمال والفلاحين 69، والناصريون والاسلام السياسي.
كان فؤاد سعيد فارع (الفقيد) وأخوه فيصل سعيد فارع ومحمود مجاهد هم من خط برنامج الحزب الوليد والصغير. و تولى طباعته الفقيد حفظ الله عبدالحسين.
بعد قرابة أربعين عاماً أحاول استذكار البدايات الاولى لثلاثة حملوا اسم «فؤاد» أنحت لهم اسم أو مصطلح «الافئدة» وهم فؤاد علي عبدالعزيز وفؤاد عبدالجليل وفؤاد سعيد فارع الذين شهدوا الاعلان عن ولادة العمال والفلاحين «حزب العمل» فيما بعد.
في مدينة الحديدة تحصل الشباب الثلاثة على الثانوية العامة. كان فؤاد علي عبدالعزيز عاملاً بسيطاً في محلج القطن بشركة القطن بالحديدة. أما فؤاد عبدالجليل فربما كان لا يزال في بيت الفقيه عاملاً عند محمد الحاج والد الصديق منصور محمد الحاج.
وكان فؤاد سعيد فارع منذ عرفته شديد الاحتفاء بالقراءة والمعرفة، واسع الاطلاع وحاد الذكاء. وكانت للاخوين بل لاخوان: درهم سعيد فارع «التاجر» وفيصل سعيد فارع -الطالب حينها- وفؤاد مكتبة حديثة بكل المعاني و ذات سمة يسارية شأن مكتبة الفقيد الكبير عبدالقادر محمد هاشم. كان الكتاب والمجلة عملة صعبة، واليساري منه أكثر صعوبة.
فؤاد سعيد فارع كان الأكثر احتفاءً بالحصول على الجديد من الكتب والمجلات: الطليعة الكاتب. دراسات عربية، الثقافة الجديدة «الصادرة عن الحزب الشيوعي العراقي».
الرائع أن عقد السبعينات في اليمن كان بداية التفتح الثقافي والسياسي والديمقراطي نسبياً، فقد بدأت التعاونيات في الظهور، وبالأخص في تعز لتنتقل وتعم مناطق عديدة في ال (ج. ع. ي).
وبدأ أو أُعيد صياغة بعض الاحزاب: الاتحاد العام لعمال اليمن، واتحاد الأدباء، ونقابة الاطباء. وظهرت مجلة الحكمة، واليمن الجديد التي أعيد إصدارها، وصدور مجلة الثقافة الجديدة في عدن والجيش في صنعاء والكلمة في الحديدة إلى جانب الصباح التي أعاد إصدارها الصحفي القدير الاستاذ سعيد علي الجريك.
أرتبط اسم فؤاد سعيد فارع بمجلة الكلمة التي أصدرها الأستاذ محمد عبدالجبار في الحديدة. وعملت معه كمدير تحرير.
وبدأ فؤاد وفيصل سعيد فارع ومحمود مجاهد وسيف أحمد حيدر وأمين اسماعيل الشيباني وعبدالباقي شاهر وعلي محمد عبده والأخوان أحمد ومحمد مثنى والطيب بعكر وعبدالرحمن الحضرمي واحمد قاسم دماج ومحمد الفتيح وسلطان الصريمي والمساح الكتابة فيها بعضهم بأسمائهم الحقيقية وبعضهم بأسماء مستعارة. وكنت ممن كتب في البداية بأسماء مستعارة. ومممن كتب بأسماء مستعارة محمد عبدالرزاق المكمني وعبدالملك السندي.
وكم أتمنى لو يستعيد الصديق العزيز الدكتور محمد عبدالجبار الكتابة عن هذه المرحلة من بداية الكلمة التي كان مؤسسها من الألف إلى الياء.
في هذه الفترة قام العزيز فؤاد بالتعاون معنا في الكلمة. وأتذكر لقاءه المهم مع الشاعر والمفكر السوداني تاج السر الحسن -يرحمه الله- فقد التقاه فؤاد في المطار بالحديدة وأجرى معه لقاءً سريعاً تنبأ فيه الحسن بقرب قيام الوحدة اليمنية التي قرأها في صهاريج عدن وحجارة مأرب والمدرجات المنتشرة في طول اليمن وعرضها. ونشرت المقابلة في أعداد الكلمة الأولى. كما أجرى في القاهرة لقاء مع الاستاذ والشاعر الكبير عبدالعزيز المقالح.
كما كتب بعض الموضوعات والمقالات غالباً بأسماء مستعارة. كما كتب في الفترة إياها الطالب فيصل سعيد فارع بحثاً مهماً عن المسألة التعليمية في عددين أو أكثر.
كنا نعتبر فؤاد ضمن طاقم تحرير الصحيفة. فقد كان من أنشط العناصر في تجميع المواد، ومساعدة التحرير والمراجعة والتصحيح.
في الثانوية العامة كان من الدفعات الأولى التي ضمت كوكبة من دعاة الحداثة واليسار الماركسي: محمد قفلة، الفنان جابر علي أحمد، مأمون طالب، قادري أحمد حيدر، فيصل سعيد فارع، محمود مجاهد نعمان، محمد جميل، حفظ الله عبدالحسين، مراد ظافر، وعشرات لا أتذكرهم.
وفؤاد فارع مثقف عميق التفكير، وعلى قلة ما كتب فقد كانت اسهاماته في نشاط اليسار بارزة وثرية في النشاط العام، وحلقات التثقيف الماركسية، ودعوات الحداثة والحرية والتجديد. وربما حماه هدوء واتزان وعقلانية، وعدم الانخراط في المعارك السياسية اليومية -سمة المرحلة- من الاعتقالات المتكررة. فهو على صغر سنة كان أميل للحوار والتفتح والقبول بالآخر بمحبة ووعي. كان الهم الثقافي والأدبي هو الغالب على قراءة وتفكير ونشاط «الفؤاد» ولقد كان منزلهم العامر ومكتبتهم الحديثة من أهم المراجع لليسار الديمقراطي في مدينة الحديدة. وقد استفدت من هذه المكتبة التي تضم نفائس من الرواية والقصة والنقد والثقافة العامة ومجلات اليسار. وكنا رفاقه نرى فيه العقل الراجح، والذكاء المتقد والرؤية العميقة والسيرة المثلى والخلق الرائع والعظيم.
في بداية السبعينيات بدأت رحلة الفقيد إلى الكويت. وفي الكويت كان نشاط فؤاد اكثر ديناميكية وأعمق، أثراً.
فقد تواصل مع التيارات اليسارية القومية في الكويت، ونشط في الحركة الطلابية في حين اهتم فؤاد بتعميق معارفه، وتوسيع ثقافته، وتحصيله العام إلى جانب التخصص وإن لم يقطع صلته بالانتماء للعمل واليسار الماركسي. وكان حريصاً كأخيه على التواصل مع تيار اليسار في الوطن العربي والعالم. وقد اهتم فؤاد منذ البدء بالجوانب العلمية. وساعدته لغته الانجليزية على التواصل أكثر فأكثر والانفتاح على تيارات العصر الحية والمتطورة. فقد قرأ روايات نجيب محفوظ، وأعمال توفيق الحكيم وطه حسين، والطيب صالح واهتم بالرواية العالمية: الروسية والفرنسية والامريكية والانجليزية.
وقد ابتعد مبكراً عن النشاط الحزبي والسياسي بصورة عامة. ولكنه بقي على تواصل إنساني مع الاهتمام بالفكر والثقافة والأدب. ورغم تباعد لقاءاتنا إلا أننا كنا كلما تناقشنا حول العديد من القضايا الراهنة والتطورات الفكرية والأدبية أحس بأن ابن فارع ما يزال مبحراً باتجاه الحياة والعصر والمستقبل.
عندما هاتفني العزيزان: قادري أحمد حيدر وفيصل سعيد فارع بصاعق رحيل هذا الرفيق الرائع والمفكر الانساني والنبيل شعرت بحزن عميق عميق.
وجرت الدموع أو تمازجت بالدم، وأحسست بتعاسة تخز الوجدان وتدمي الفؤاد. وعندما أشير إلى فؤاد عبدالجليل، وفؤاد علي عبدالعزيز، والفقيد الكبير فؤاد سعيد فارع فإن هؤلاء الثلاثة كانوا جزءاً من أسرتي الصغيرة، تعايشنا معاً، وترافقنا في ظروف غاية في القسوة والبؤس والملاحقات الأمنية والاعتقالات الكثيرة. وعندما رحل ابن عبدالجليل الطالب بجامعة صنعاء وأحد قيادات العمل واليسار حينها بكت الاسرة: الزوجة والأبناء والأهل لأنه كان واحداً من الأبناء.
وأحسست برحيل فؤاد علي أنني أفقد إحدى العلامات المضيئة في الحياة. أما رحيلك أيها الفؤاد الفؤاد فقد جرعني كأسا من الأسى واليأس حد مرادفة الحياة والموت.
لقد تولى فؤاد مسؤولية قيادية في جهاز الرقابة والمحاسبة وقدم أنموذجاً زاهياً في الطهر ونظافة اليد, ونقاء الضمير, مع التمتع بكفاءة ومقدرة رفيعة. فرحم الله الخالد فؤاد.
الأفئدة الثلاثة
2007-05-31