في خطابه اليوم، وضع السيد علي الخامنئي النقاط على الحروف في ثلاث قضايا محورية تمس جوهر السياسة الإيرانية وموقعها في الإقليم، وتعكس ملامح المشهد الاستراتيجي الجديد في المنطقة.
أولى هذه القضايا كانت الملف النووي، حيث جدّد الخامنئي تمسك إيران بحقها في تخصيب اليورانيوم داخل أراضيها، مؤكداً أن هذا حق سيادي لا يخضع للمساومة أو التفاوض أو الإملاءات. وقد جاءت رسالته حاسمة لتبدد الأوهام حول إمكانية فرض اتفاق جديد بشروط أمريكية، إلى درجة خُيِّل للمتابع أن الرجل أوحى ضمناً بأن إيران تملك سلاحاً نووياً، وكأنه كاد أن يعلن ذلك صراحة.
القضية الثانية تمثلت في تحدي الولايات المتحدة، إذ وجّه الخامنئي نقداً لاذعاً لواشنطن، ساخراً من قيادتها، ومسفهاً أطروحاتها، ومؤكداً أن زمن الهيمنة الأمريكية من دون تكلفة قد ولّى، وأن على القوات الأمريكية أن ترحل من المنطقة. لم تكن هذه اللهجة الحازمة مجرد تعبير عن موقف، بل إعلاناً عن معادلة ردع جديدة تؤكد أن الولايات المتحدة لم تعد في موقع يخوّلها فرض الشروط، وأن إيران ومحور المقاومة ليسا في وارد الخضوع أو التراجع.
القضية الثالثة كانت الموقف من قضايا الإقليم، وتركّزت حول محورين رئيسيين: أولهما، الدعوة الصريحة إلى إخراج القوات الأمريكية من المنطقة باعتباره شرطاً ضرورياً للاستقرار؛ وثانيهما، التأكيد على ثوابت الجمهورية الإسلامية في دعم القضية الفلسطينية وحتمية زوال “إسرائيل”، لا سيما في ظل ما يتعرض له قطاع غزة من عدوان مستمر.
بعيداً عن السجالات العقيمة بين مناصري إيران وخصومها، يصعب إنكار أن محور المقاومة تعرض لضربات موجعة خلال الأشهر الماضية. غير أن الخطأ الكبير هو الاعتقاد بأن هذه الضربات كانت قاضية، أو أن إيران باتت هدفاً سهلاً يمكن للولايات المتحدة أو “إسرائيل” التعامل معه بلا تكلفة. فالمشهد الإقليمي والدولي يروي رواية مختلفة.
الولايات المتحدة تبدو منشغلة بملفات أكثر إلحاحاً: من أزماتها الاقتصادية الداخلية، إلى التنافس الاستراتيجي المحتدم مع الصين، وصولاً إلى تداعيات الحرب الروسية الغربية، وعجز الإدارة الأمريكية الجديدة عن احتوائها أو وقفها. وبفعل هذه الأولويات، باتت واشنطن أكثر حذراً من التورط في مستنقعات جديدة في الشرق الأوسط.
في المقابل، تآكل ما كان يُعرف بـ”محور الموالاة والتطبيع”، نتيجة للسلوك الإجرامي والعدواني المتخبط وغير المسبوق للكيان الصهيوني، ما أدى إلى تراجع الرهانات عليه حتى من قبل أقرب حلفائه العرب، الذين بدأوا بمراجعة خياراتهم الاستراتيجية.
وفي هذا السياق، لعبت الوساطات الصينية دوراً متقدماً في إعادة رسم توازنات المنطقة، وكان أبرزها التقارب الإيراني السعودي، ومؤخراً الإيراني المصري، مما يعكس تحولاً متزايداً في المزاج العربي تجاه طهران، التي لم تعد تُرى كعدو، بل كشريك محتمل في صياغة نظام إقليمي أكثر توازناً.
اليوم، وفي ظل هذه المستجدات، يشهد محور المقاومة مخاض ولادة جديدة، أكثر صلابة ووضوحاً في الرؤية، يُركّز جهوده على العدو المركزي: الكيان الصهيوني، في ظل نوع من التكامل – أو في الحد الأدنى، التصالح – مع دول الجوار، بعيداً عن منطق التصادم الذي ساد في مراحل سابقة.
خلاصة القول: لم تسقط إيران، ولم ينتهِ محور المقاومة. بل على العكس، فإن العزلة الحقيقية باتت تطوق الكيان الصهيوني، الذي يواجه اليوم أزمة أخلاقية، وسياسية، وعسكرية غير مسبوقة، وسط تصدع تحالفاته وتراجع مكانته في الإقليم والعالم.