صنعاء 19C امطار خفيفة

بين محكية تهامة ومحكية حضرموت( الحلقة الأولى)

طالعت كتاب «قاموس اللهجة الحضرمية»، للأستاذ الباحث فهد أحمد بن هلابي، وهو جهد يشكر عليه. ويأتي هذا الجهد ضمن جهود وأعمال كثيرة، بذلت هنا وهناك؛ بدأت تهتم بالمحكيات اليمنية، سواء على المستوى الفردي، أو الأكاديمي؛ ويأتي على رأسها كتاب «المعجم اليمني في اللغة والتراث»، للأستاذ الشاعر مطهر الإرياني، وكتاب «من اللهجات اليمنية: لهجة المعافر»، للوالد الأستاذ أحمد شرف الحكيمي، ومن الدراسات الأكاديمية رسالة ماجستير عن لهجة خبان.

 
وقد لا نندهش أو نستغرب للقدر غير القليل من التشابه بين المحكيات اليمنية على وجه العموم، أو محكيتي حضرموت وتهامة على وجهٍ خاص. فالتاريخ اليمني يشترك في كثير من الخصائص والسمات والعادات والتقاليد، سواء في عصوره الإسلامية، أو على امتداد تاريخه القديم، وفي ظل ممالكه القديمة.
وإذا كان المهتمون من علماء الآثار لاحظوا تشابهًا كبيرًا بين لغة المسند اليمني القديم، واللغة الهيروغليفية المصرية، فلا بِدعَ إذن أنَّ نجد هذا التشابه، بين لغات دول اليمن القديم، وبدرجة أكبر في محكياتها.
والناظر في تاريخ اليمن القديم، لن يعدم أيضًا أن يجد هذا التشابه حتى في أسماء ملوكها القدماء؛ من ملوك سبأ، ومعين، وحمير، وقتبان، وأوسان، وحضرموت.
مازلت على قناعة بأنَّ الثقافة وقيم الأديان الراقية هي أحسن وسيلة وأجداها لبناء جسور حقيقية بين مختلف الشعوب، فضلًا عن تقوية أواصر أبناء وطنٍ واحد ما يجمعهم فيها أكثر مِمَّا يفرقهم ويشرذمهم.
فما عبثت به أيدي الاستعمار، وعاثت به أطماع الساسة والحكام الفاسدين، بمقدور هذه الثقافة أن تصلحه وتعيد بناءه وترميمه.
ولا شك أنَّ من تجرد لمثل هذه الأعمال ونذر نفسه لها أن يصيب معرفةً قد تعينه على استجلاء واستكمال صورة ظل ينقصها الكثير من التفاصيل، ولا تتم إلا بممارستها، وصرف الجهد والوقت من أجلها. هذا فضلًا عن إجابتها لكثير من الأسئلة التي مازالت تلح علينا.
خذ على سبيل المثال مفردة: حيق. وهي كلمة حضرمية تطلق على السهل. وعلى قبيلة حضرمية أيضًا عرفت بآل الحيقي. وهي في محكية المعافر، كما يقول الأستاذ أحمد شرف الحكيمي: "اسم يطلق على صنف من الذرة العلفية...، يزرع في المناطق الدافئة مثل لحج وتهامة وبعض مناطق تعز.
وذِكْر الأستاذ أحمد شرف الحكيمي لمناطق مثل: لحج، وتهامة على وجه الإطلاق، وتخصيصه بعض مناطق تعز، يجعلنا نميل أنَّ هذا الصنف مِنْ الذرة لا ينبت إلا في السهول.
وبذلك يظهر لنا عدم الفرق في اللغة بين أن يطلق هذا الاسم على نوع معين من الأرض أو على النبتة التي تنبت فيه؛ وذلك لمناسبة المكان. ولا يبعد، بل قد يترجح، أنَّ النبتة سُمِّيتْ باسم المكان الذي تنبت فيه، وهي الأرض السهلية. وهذا يوصلنا للمعنى الأدق للمفردة، ثم التطور الذي طرأ عليها على جهة المجاز.
كما أنه يظهر، وبشكل واضح، أصل اشتقاق لقب آل الحيقي، ومن أعلامها الأستاذ الأديب عارف الحيقي، وهو بحسب المعجمين: الحضرمي، والمعافري، لقب أسرة يمنية من المعافر ناقلة إلى حضرموت منذ القديم أو العكس.
هذا فضلًا عن الفوائد التي قد يجنيها عالم الاجتماع والأنثروبولوجي والباحث اللغوي والمؤرخ والجغرافي.
فَمِنْ أوجه التشابه بين محكيتي تهامة وحضرموت:
- أبوي: هو الأب والوالد في محكية حضرموت. وفي تهامة، وبوجه خاص في مدينة اللحية، تقول المرأة عندما تثني أو ترحب بضيفٍ مَا، تقول: سِيْدْ ابُويِهْ.
- أُبُبْ: وهي لفظة تقال في سياق التعجب والاستغراب والاندهاش أو التضخيم. وهي لفظة لا تكاد تخلو منها أية محكية يمنية، ومنها تهامة.
- أُثُمْ. وفي تهامة يقولون: ثُمْ. ويصفون الشخص العالي الصوت على جهة المجاز فيقولون: ثُمَهْ كبيرو.
والحضارم يقولون: سالم أثمه ملان بالكلام. وأنا لم أتعرض لضبط المفردة بالحضرمية لجهلي بها. ولأنَّ الباحث ضبطها بوجهين مختلفين، فتحيرت في وجه نطقها بشكلها الصحيح. وهذا ما يحتاج أن يعمل عليه الباحث حتى يجود عمله.
وفي المثل الحضرمي: "إيدي في أثمه وصُبْعُهْ في عيني"، وهو نفسه في أمثال تهامة: "يدي في ثُمَهْ، وصُبْعهْ في عيني". وهو مثل يطلق على من تحسن إليه، ويسيء إليك.
- أربيه: وهي تصلبات وآلام عضلية بجانب العانة في الفخذ. وفي تهامة يقال لها: ربايا.
- إثل -بكسر الهمزة أو فتحها: شجر معروف، ويقال لها في تهامة: مَثْلْ. ويقال لها عند التعريف: امَّثل. وهو الأثل في الفصحى.
- أُوْبْ: لفظة تقال لسائق السيارة ليقف. وفي تهامة، وعلى وجه الخصوص أهل الحديدة يقولون لسائق الباص أو التاكسي حين يريدون منه التوقف: وَبْ.
- امْبُوه: تطلق على الماء. وهي كلمة تعلم للأطفال حتى يعرف وقت حاجتهم للماء. وفي تهامة عندما يكثر الماء على الشاي يعاتب الأب ابنته أو زوجته فيقول عن هذا الشاي: امْبُّوَا. أي أنه صار مجرد ماء لا أثر للشاي فيه.
- باقرنقاح: وهو تورم يصيب الأطفال في أحد الفكين أو كلاهما. هكذا قال الباحث! والصواب أنه تورم في أسفل الفك، وليس في الفك. وهو القرنقاح في محكية تهامة. والرُّطين في محكية صنعاء، وسبق المفردة بالباء على عادة الحضارمة بوضع هذه السابقة أمام كثير من الأسماء الحضرمية، حتى إنَّ الخمير يطلقون عليه باخمري.
- برزْ بُهْ: قال في تعريفها: اختلى به. ثم قال: يقال: بغيت بابرز بك. أي أريد محادثتك على انفراد. والبرزة الكلام مع آخر على انفراد.
ويبدو أنَّ الباحث لم يستوفِ بيان المعنى عند تعريفه. فمعنى برز به: اختلى به للحديث؛ لا مطلق الاختلاء. هكذا يغلب على ظني.
وفي تهامة يقولون: فلان يبرز مع فلان. بمعنى يتحدث معه على وجه الإطلاق، لا على وجه التقييد بالحديث المنفرد على وجه السر.
ويقال في تهامة: فلان معاه برزه أو معاه برزه فاضيه. أي حديث لا طائل وراءه. وفي العربية الفصحى يطلق على المرأة العاقلة التي تظهر للرجال وتحادثهم على وجه الاعتياد منها بأنها بَرْزَة. وأظن هذا الوصف يطلق أيضًا على هذا النوع من النساء في بعض مناطق الشمال كخولان. والعجيب أنَّ الأستاذ لم يذكر هذا المعنى في معجمه، واقتصر على معنى الضغط والكبس.
وهنا سؤال: وهو كيف أن البروز وهو الظهور، صار في محكية حضرموت حديثًا على وجه الانفراد والاختلاء. والذي يظهر لي إنه حديث لا يبرز منه إلا هذان الشخصان. فإذا ما ظهر، يعرف من أشاعه.
- بيسه: عملة معدنية من معدن الصفر، وهي أقل من العانة.
أقول: يقصد بمعدن الصفر: النحاس. وفي تهامة والمعافر وعدن يطلقون على النقود: بَيْسَهْ وبِيَس. ويقلل من شأن شخصٍ ما في محكية تهامة، فيقال: فلان ما يسواش بيسه. أي أنه لا شأن له يذكر. وذلك لمقدارها الضئيل.

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً