مهما طالت حالة التعامي والإنكار، فإنها آيلة إلى التلاشي، ولن تصمد طويلًا في حجبها لحقائق قاسية وعنيدة تفيد بأن هنالك جغرافيا جديدة تتشكل لليمن على خلفية تداعيها وتصدعها، وهناك مسارات كثيرة تتحول، وواقع ووقائع مختلفة وخطيرة أنتجتها الحرب وقوى الحرب والموت، تستوجب اعتماد نظرة جديدة، وبعيدة جدًا للاعتمالات التي تمور في البلاد، وتحيطها وتميد بها.
وإزاء ما نشهد ونعيش من أوضاع نزقة لا تخضع لأي قالب معروف وسابق، لن تنفع الكتابة تحت تأثير الفاجعة أو بعينها في مناخات الشفق الروحي وانعدام إمكانية رؤية ما سيأتي، وإن كان الأرجح أن القادم سيكون غروبًا، وليس فجرًا.
فخلال عقد من الحرب، بل قبل أن تندلع، كانت اليمن تقع في منخفض تاريخي وجيوسياسي جاذب لشتى أنواع الانقسام والتذرر، ولرياح الحروب البارة والحارقة، الأهلية والإقليمية، ولم يزدهر ربيع المليشيات إلا من باب الهشاشة المستدرجة لدوامات العنف والاحتراب والخراب، هشاشة ناتجة عن العجز والفشل في بناء الدولة.
أما بعد عقد من الحرب، وأطول حفلة دموية، فقد انتشر السلاح وفاض، وغرقت البلاد في فوضى المليشيات، وفرض عليها أن تمشي بأقدام من نار ودم، وتكشف للمرة الألف أن اليمنيين كانوا الأسرع من غيرهم في الانزلاق إلى التمزق والشرذمة، كما كانوا، كعهدهم وديدنهم، الأكثر قابلية واستدعاء للتدخل الخارجي، ذلك الوحش الكاسر الذي لا يرحم إذا ما تهيأت له تربة القضم والانتهاش والافتراس.
ومن نتائج الحرب التي لا تلوح لها نهاية، كان انحلال بقايا الدولة إلى مليشيات وسلطات أمر واقع، وطفح الكائنات "تحت سياسية" ودون الوطنية، وتهتك وانفصال الناس عن بعضهم، وشتات في أرجاء البلاد والعالم، وتراجع من القديم إلى الأقدم، واستعانة بالسحرة والمافيات والبلطجية والفتوات، وقصة تكتب بسفك الدماء، ومليشيات وعصبيات وعصابات مسلحة تتفوق على بعضها في الترويع والانتهاك، وماضٍ لا يمضي، بل يحضر بشراسة ليفترش الأرض ويلتهم البشر، ويطلق العنان لأشباحه ونزواته العربيدة، وصراع هويات، واختلاط أزمنة، واضطرابات عارمة ناتجة عن كل ذلك الاختلاط، وانحباس في مخنق الثنائيات، وحالة أرخبيلية تتكاثر وتتناثر تمثلاتها وعناوينها بانفلات يستعصي على الضبط والقياس والتقدير.
كل هذا وثيق الصلة بما يحتدم في عالم اليوم، حيث يتقدم التاريخ من جوانبه السلبية -حسب ماركس- ويتربع على رأس دولة القوة العظمى مستثمر عقاري لا يشبع، يستهل صباحاته ببسط خارطة "القرية الكونية" على طاولته، ليضع الدوائر والخطوط الحمراء على الواجهات البحرية والمنافذ والممرات المائية وكل مكان توشك أن تصل إليه الصين، ويباشر تنفيذ برنامجه اليومي لسكان هذه "القرية"، ولإدارة العالم بالتغريدات والجمل القصيرة، كاسرًا كل القواعد التي كان يعتقد أنها غير قابلة للكسر.
فهو يهاتف بوتين ليفاوضه بشأن صفقة تقاسم معادن وأراضي أوكرانيا كغنيَمة حرب، ويستدعي نتن ياهو ليأمره بالتفاوض مع أردوجان، لتقاسم النفوذ في سوريا، ويستقبل أمراء الخليج الذين يعرضون عليه مئات المليارات والوساطات وما استحوذت عليه أيديهم من جزر وموانئ وسواحل الآخرين، ليقيم عليها قواعده وينشر جنوده.
حتى رئيس الصومال شيخ محمود، عرض عليه استخدام سواحل بلاده لإقامة قواعده، وكذلك رئيس جمهورية أرض الصومال عبدالرحمن محمد عبدالله، عرض عليه البسط على بربرة.
في مهب إعصار من نار، أو هذا الإعصار الكوني، تبدو اليمن قشة تترنح وتتهاوى فيها شراذم شعب الله المحتار، في انتظار ما يقرره لها الآخرون، وفي انتظار الأوامر العلنية من رئيس الإمبريالية العالمية المتوحشة ورأس حربة اليمين العالمي، إلى أمراء ومشايخ الإمبرياليات الفرعية الأكثر رجعية وعتاقة في العالم، للسير على نفس المنوال، وإخراج مخططات تقاسم النفوذ وتوزيع اليمن كغنيمة حرب، إلى العلن، ولذلك فإن ما تشهده الأرخبيلات اليمنية الملتهبة على صلة "جدلية" بحرب عالمية كبرى، وكأن محنة اليمن تكمن في وقوعه -ويا لها من وقعة-على بحرين ومحيط وخليج ومضيق، وامتلاكه أكثر من مائة جزيرة، وفشله في إدارة هذه النعمة.
... وللحديث بقية