صنعاء 19C امطار خفيفة

جدتي ملكة و"الأرمونية"!

جدتي ملكة و"الأرمونية"!

ملي هيا ما زحفتيش.. ما تعبتيش، من صبح الله وانتي فوق الأرمونية (لعبة البيانو الخشبية)، اطلعي اتغسلي وبدلي قبل ما انزل اشعفف بك بالشارع (مجازًا). كان هذا صوت جدتي لوالدتي ملكة طه خليل.

 
حقيقة اليوم التقيت بإيمان إبراهيم ذات الثماني سنوات، والتي كانت تعشق شيئًا اسمه موسيقى دون تخطيط أو علم مسبق لديها، وقبل أن تبدأ في تنمية موهبتها بسماع كبار الفنانين العرب واليمنيين.. كانت مرحلة عمرية صغيرة جدًا على أن تجلس إيمان عند عتبة باب الشارع وقت قيلولة أهل الحافة كلها، وأصوات حنين مكيفات الهواء مصحوبة بالحرارة المنبعثة من محركات المكيفات وموجة الحر الخانقة في صيف عدن وفي عز شهر يوليو، يعني بالإجازة الصيفية.
 
كانت إيمان قد بدأت تستسيغ وتميز الأصوات التي تشدها عبر الراديو والتلفزيون، وعبر أشرطة الكاسيت التي لم تكن لها، بل كانت لمعظم المتواجدين في البيت، كل له ذائقته في السماع لما يبهجه. أحد أخوالي كان مولعًا بفرقة البوني إم وفرقة آبا وديمس روزس وتينا تشارلز. وإحداهن كانت مولعة بعلي الحجار ومحمد الحلو ومارسيل خليفة ومدحت صالح، وكانت مولعة بل مدمنة على إذاعة مونت كارلو من باريس.. أظن أنني تعرفت من خلالها على أجمل الأغاني التي فتحت أذنيّ جيدًا على التمييز والالتصاق بجانب مسجل الشرائط والراديو فقط من أجل الاستماع.. تعلمت الكثير من خلالها عبر تلك الإذاعة. وأعتقد يومها لم نكن ندرك ما هو قانون الجذب، ولا أظنه سوف يخطر في بال أي أحد أن تذهب هذه الخالة الصغيرة المولعة بباريس، وتحفظ عن ظهر قلب جميع مذيعي ومذيعات راديو مونت كارلو. كان بابًا ومدخلًا لي أعتبره الآن كنزًا احتفظت به طيلة هذه السنوات حتى اليوم.
قصة الأرمونية هذا البيانو الخشبي اللعبة الصغيرة التي حولتها بموهبتي الصغيرة إلى آلة عزف حقيقية من شدة شغفي الموسيقي، وبدأت حينها أفترش المدخل الرئيسي للبيت، وأفرش كرتون وأتربع وأضع البيانو فوق رجلي، وأبدأ بمحاولة اكتشاف النغمات التي قد توصلني لجملة موسيقية أنا أحبها.. أحاول حتى تتسق معي الجملة وأعزفها جيدًا، فأنبهر بإنجازي العظيم، دون أن ينبهر بي أحد. بل على العكس كنت أشكل مصدر إزعاج للنائمين (ابتسامة عريضة) لهذا البيت الذي تصدح فيه الموسيقى ينجب أطفالًا مبدعين عادة أو حتى أطفالًا يعشقون الحياة من خلال سماع الموسيقى، ويتعايشون بسلام نفسي مع أنفسهم، ومع محيطهم بدرجة أعلى قليلًا عن الأطفال الذين نشأوا في بيئات سامة تحرم الفن والغناء وكل ما لا يقود إلى السلام النفسي وتبيح هدر الدم.

ارمونية ( شبكة الأنترنت)

بالعودة إلى الأرمونية المعجزة كما كنت أسميها، إذ إنه من غير المنطقي أن تجد آلة موسيقية على هيئة لعبة أطفال، تصدر كل هذه الجمل الموسيقية دون انحراف في التون الموسيقي.
كنت أصعد وقت العصرية إلى البيت في الوقت الذي يبدأ الأطفال بالنزول والانطلاق للعب. أستقل الدرج وأنا متربة وشعفاء وثوبي مليان ذر وقعاميس من جلسة الشارع. إلا أن ذاك الشعور الذي لا يوصف حين كنت أعود محملة بجمل موسيقية أتقنت عزفها عن ظهر قلب كأنه العيد.
 
الشغف لم يتوقف هنا، بل روحي التي كانت في حالة جوع دائم لسماع الموسيقى بكل أشكالها منذ نعومة أظافري.
(روحي على جنب انتي وهذا الصوت الشمات) هذا الصوت لم يفارقني حتى اليوم. رحمة الله عليك يا أستاذ حسين كليم. تسببت بإلصاق ندبة غائرة في نفس طفلة كانت تعشق الغناء، ولكن صوتها شمااات (كيف أسوي. لازم صوتي يوقع حلو بأي طريقة).
أعتقد أنني دخلت في تحدٍّ عظيم مع نفسي ومع تلك الجملة.
انتقلنا إلى منزل جديد، ولن يعيش فيه سوى شخصين فقط مع قليل من العفش غير المكتمل، ولكن كان هناك جهاز مشغل أسطوانات وشريط كاسيت أيضًا وسماعتان ضخمتان وعدة صناديق متروسة بالأشرطة التي لم أسمعها من قبل في حياتي، ولكنه كان ذوق أمي التي كانت ملمة وعاشقة للطرب.
كانت فرصة ذهبية للانفراد بذلك الجهاز وتلك الصناديق التي تحتوي الكنز. ظللت لأيام طويلة وأنا أغني مع جهاز التسجيل ذاك الذي كان هديتي الجديدة من السماء. ولم ألتفت حينها لقرع الجيران المستميت على بابنا كي أخفض الصوت.. ولا لشكائهم المستمر لدى أمي ومعاناتهم اليومية من صوت الأغاني المرتفع المنبعث من منزلنا.
كنت أغني مع كل جملة وكل كلمة وكل لحن بديع ومع كل ما كان سيجعلني أغني.
الشغف ذلك الشعور الذي خلق معنا كل ونشأته.
في الحقيقة أيقنت مؤخرًا جدًا أن عمر الإنسان قد يذهب هباء إن لم يلمس شغفه ويحارب من أجله رغم كل الظروف التي قد تعوق تقدمنا.
هناك روح لا تنطفئ وإن متنا، ذاك هو شغفنا الذي لم نتخلَّ عنه، فأصبح لنا هو بالتالي تاريخًا يسكننا ونسكنه.

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً