الإنسانية! والأخلاقية!.. تخصه
الوحشية! والهمجية!.. تخصنا
إنه، وإزاء ما يقوم به هذا الكيان الغاصب، من عدوان وحشي همجي لاإنساني ولاأخلاقي، على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، وما يقوم به من مجازر وإبادة جماعية بحق أبنائه، وكاستمرار لعدوانيته تلك ومجازره وإبادته منذ نشأته وما قبلها، برضا وبموافقة غربية، بل وبمساندة ومشاركة فعلية مباشرة من قبل النظام الغربي عمومًا، فإننا نقرأ، بل البعض منا يتعجب من الموقف الغربي هذا، باعتبار موقفه هذا يتناقض مع إنسانيته وأخلاقياته التي يدعيها، وبأنه يكيل بمكيالين، ويطبق ازدواجية المعايير، وغيرها من تلك الادعاءات التي يدعيها حول الإنسانية والأخلاقية، غير مدركين أن ذلك الغرب الرسمي والغالبية العظمى لنخبه، وحتى الغالبية العظمى لعامته، وفي الأساس، وكظاهرة متأصلة ومستأصلة ومتجذرة فيه، ومنذ نشأته، فإنه لا يكيل بمكيالين، ولا يمارس ازدواجية المعايير، ولا يفعل ضد ما يؤمن به وتربى عليه، بل هو في اتساق تام وتناغم كلي، وتماهٍ ممزوج مع ذاته وجوهره... إلخ.
إذ إن المشكلة والإشكالية الفظيعة هنا هي أن النظام الغربي لا يشعر بأنه يكيل بمكيالين، ويتبع ازدواجية المعايير في ما يقوم به ويفعله، فهو واقع تحت سيطرة بما يسمى في علم الاجتماع وعلم النفس "التفكير المزدوج"، يسيره ويتحكم به بعد أن تجذر فيه.
هذا المصطلح (التفكير المزدوج) قدمه، ولأول مرة، الروائي والأديب البريطاني جورج أورويل،
في روايته المشهورة "1984"، إذ وضح ما قصده بهذا المصطلح "على أنه القدرة على الاحتفاظ بمعتقدين مختلفين متناقضين في الذهن في نفس الوقت، وقبولهما واعتناقهما منهجًا في الحياة"، دون أن يشعر من يصاب به بأي تناقض بينهما، ودون أن يشعر بتأنيب الضمير، ومن ثم يصير سلوكًا وتصرفًا وممارسة حياتية يومية مقبولة.
وهذا ما هو واضح وبيّن في النظام الغربي، بل إن الغريب عليه أن يفعل غير ما يفعله الآن، وإذا فعل ذلك فإنها البداية الحقيقية لنهايته، فهو قام، ومنذ قرون، ومازال مستمرًا، على استعمار الشعوب والأمم، ونهب ثرواتها، وتدمير إنسانها قبل أرضها، مجازر وإبادة جماعية لها وبحقها، وتاريخه الطويل شاهد على ذلك.
فمثلًا: من ذلك الوهم الذي نعيشه، والذي يجعلنا نقول بأن النظام الغربي الحالي يكيل بمكيالين، ويتبع ازدواجية المعايير، هو دعمه اللامحدود لأوكرانيا، وكذلك دعمه اللامحدود لهذا الكيان الغاصب..
لكننا لو نظرنا إلى ذلك وفقًا لجوهر طبيعته، فإن هذا الدعم لكليهما ليس فيه أي تناقض، ولا يدل على أن هذا النظام الغربي يكيل بمكيالين، ولا يستخدم ازدواجية المعايير هنا، بل إن دعمه هذا يتوافق مع جوهره، ومع الإنسانية والأخلاقية بمفهومه، فأوكرانيا وهذا الكيان بالنسبة له هما المعتدى عليهما، وهما المهددان بزوال الإنسانية والأخلاقية التي يدعيها، ومن ثم تهديد حضارته، لذلك وجب دعمهما، بل وجب عليه الدفاع عن مصالحه وحضارته أمام الوحشية والهمجية الروسية والفلسطينية كما يرى.. إلخ.
إذ إن الإنسانية والأخلاقية بالنسبة له هي إنسانيته وأخلاقياته تخصه هو، إنسانية وأخلاقية غربية فقط، نشأة وتجذرًا فلسفيًا وعقيدة، ومن ثم، وعيًا بكل صوره الفكرية والثقافية والعقلية، وبكل مظاهرها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وبكل تعاملاته وعلاقاته مع بعضه البعض، ومع الآخر المغاير له... إلخ.
ذلك الآخر المغاير بالنسبة له، وعيًا قبل كونه سلوكًا، هو وحشي، همجي، لاإنساني وبربري، لا تنطبق عليه ولا تخصه الإنسانية والأخلاقية كما يفهما هو، ولا ينتمي إليها، بل إن إنسانيته وأخلاقياته تحتم عليه القضاء عليه وإبادته باعتباره يقف حجر عثرة أمام الإنسانية والأخلاقية التي يؤمن بها، وبخاصة إذا كان يشكل تهديدًا حقيقيًا لمصالحه... إلخ.
من ذلك الآخر المغاير هو نحن كأمة، لذلك وجب القضاء عليها حتى لا تهدد مصالحه.
وعليه، ووفقًا لكل ما سبق ذكره وأكثر، وكنتيجة حتمية، فإن دعمه اللامحدود، ومساندته اللامحدودة لهذا الكيان الغاصب، ومشاركته الفعلية له، عسكريًا ومخابراتيًا وإعلاميًا واقتصاديًا ونفوذًا، ليست بغريبة عنه، وليست بجديدة، فهي مستمرة منذ ما قبل نشأة هذا الكيان رسميًا وما بعدها وحتى الآن.
إن هذا العدوان الوحشي على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، من قبل هذا الكيان الغاصب، وما يرتكبه من مجازر بشرية، ومن دمار شامل، وسابقاتها من المجازر الوحشية، تدل دلالة واضحة لا لبس فيها بأن جوهر الصراع بين أمتنا والغرب الرسمي المتوحش، هو صراع وجود لا صراع حدود، وبأن الصراع ليس بيننا وبين هذا الكيان فقط، بل بيننا وبين ذلك الغرب الرسمي المتوحش، فهم كتلة واحدة لا تتجرأ، إنما هذا الكيان هو بمثابة رأس حربة متقدمة منغرسة في جسد هذه الأمة، وبأن النظام الغربي الرسمي نظام وحشي وهمجي وبربري تجاه أمتنا، جوهرًا ونشأة وتنشئة وهدفًا وغاية، ومن ثم وسيلة وطريقة وسلوكًا وتصرفًا وممارسة... إلخ.
فهو لا يتوانى عن إظهار وحشيته تلك، وممارسة واستخدام كل وسائل التدمير والخراب تجاه أمتنا، وفي أية بقعة جغرافية منها، متى ما شعر بأن مصالحه الحيوية في خطر، أو حتى مجرد المساس بها... إلخ.
كل ذلك ليس ضد ما يطرحه من إنسانية أخلاقية كما يتوهم البعض، بل كجوهر أصيل فيه، فإنسانيته الأخلاقية تلك لا تخصنا من قريب أو بعيد، بل تخصه هو في تعامله مع أبنائه، بل إن تاريخه مليء بأبشع المجازر تجاه بعضه البعض (الحرب العالمية الأولى والثانية كمثال هنا فقط).
الخلاصة:
يقول الدكتور محمد عابد الجابري، في كتابه القيم "مسألة الهوية، العروبة والإسلام.. والغرب" (ص117): "إن فلسفة التاريخ في الثقافة الأوروبية مبنية كلها فعلًا على مسلمة: أن الإنسانية إنما خلقت من أجل أوروبا".