"ربما كانت التعابير المجازية أكثر ما ابتدعه الإنسان قوة. فمفعولها يصل إلى درجة السِّحر. إنَّها الأداة الخلاقة التي غرسها الله في أحد مخلوقاته عندما خلقه". خوزيه أورتيجا جاسيت
وأنا أعمل على الحاسوب صباحًا قبل أكثر من شهر، جاء ابن الأخت الطفل الذكي المشاغب العنيد محمد دعموش، وجلس بجانبي طالبًا أن أفتح له «تُوم»؛ فانصعت لرغبته، وفتحت له «تُومْ وجِيْري» مِنْ اليوتيوب.
وفي غمرة المشهد كان الكلب الشرس على غير عادته التي أعهدها، يطارد «توم»، و«جيري» في آنٍ واحد.
اعتلى جيري بِخَّفة ساعةَ الحائط، وحاول تُوم أن يلحقه وقام بالقفز فعلاً، وبدا كما لو أنه يبذل جهدًا غير اعتيادي ليصل إلى الساعة؛ لينجو بحشاشة نفسه من الكلب، فيما كانت الجاذبية تطلب ثِقَلَ جسمهِ للأسفل.
حاول جيري مساعدته على الصعود بإمساك شواربه التي بدأت تتمزق واحدًا تِلوَ الآخر كأوتارِ عود: (طن.. طن.. طن).
في تلك اللحظة الحرجة سمعت الطفل محمد يقول: "تُوم بِدُّو (= يريد) يُوْأعْ (=يَقَع).
شَقَّتْ العبارة سمعي، وأنا أشاهد سياقها الذي قالها فيه. فقد رأى محمد «تُوْم» على وشك السقوط، وكانَ تعبيره عن قرب وقوعه بالفعل المحكي باللهجة الشاميِّة: بِدُّوْ (يريد).
لا شكَّ أنَّ محمدًا حين قال هذه العبارة كان يلاحظ ويدرك أنَّ «تُوْم» المشارف على السقوط لم يكن ليقصد أو يريد عن نية أو قصد السقوط طَواعيةً، ولكن كانَ ذلك محضَ اضطرار.
عاد بي هذه الموقف إلى حوار جرى بيني وبين الأخ العزيز الشاعر والأديب الكبير النابغة محمد مهيوب إسماعيل قبل سنوات طويلة تقرب من العشرين عامًا.
كُنّا نمشي حينها معًا، ونتحدث عن مسألة المجاز في اللغة، وإنكار ابن تيمية له، وأنْ ليس في القرآن مجاز، وأن كل ما ورد فيه حقيقة؛ وإنَّما هي اختلاف أساليب.
وكان مما قال لي الأخ محمد أثناء حديثنا: لو أنَّ الجدار أرادَ السقوط فعلاً، لكان قد سقط حقًّا. وكانَ ذلك بالنسبة لي جوابًا مُقنعًا وذكيًا.
وقبل أن نأتي على كلام ابن تيمية فلنستهلَّ نقاشنا مع الشنقيطي؛ لأنَّه في مذهبه هذا يظهر تأثره بابن تيمية، وكان قبلاً يقول بالمجاز كما يتجلى في كتابه «رحلة إلى بيت الله الحرام»، إلا أنه زاد الطنبور نغمة، وَذهب بالمسألة أبعدَ مِمَّا ذهب إليها ابن تيمية.
وقد استنكر العلامة محمد الخضر الشنقيطي صاحب شرح البخاري «كوثر المعاني الدراري» على المالكية من أهل بلدته متابعتهم للوهابية في بعض المسائل عند استقرارهم في الحجاز، مخالفين المشهور من مذهب مالك؛ لضرورة الوقت، ومراعاةً لخواطر الوهابية.
يقول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في كتابه «منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز»:
"اِعلمْ أولاً أن المجاز اختُلِفَ في أصل وقوعه. قال أبو إسحاق الإسفرائيني، وأبو عليٍّ الفارسيُّ: إنه لا مجازَ في اللغة أصلاً، كما عزاه لهما ابن السُّبكي في «جمع الجوامع»، وإن نقل عن الفارسيِّ تلميذه أبو الفتح: أنَّ المجاز غالب على اللغات كما ذكره عنه صاحب «الضياء اللامع». وكل ما يسميه القائلون بالمجاز مجازًا فهو -عند من يقول بنفي المجاز- أسلوب من أساليب اللغة العربية.
فمِنْ أساليبها: إطلاق الأسد مثلاً على الحيوان المفترس المعروف، وأنه ينصرف إليه عند الإطلاق وعدم التقييد بما يدل على أن المراد غيره.
ومن أساليبها: إطلاقه على الرجل الشجاع إذا اقترن بما يدل على ذلك. ولا مانعَ من كون أحد الإطلاقين لا يحتاج إلى قيد، والثاني يحتاج إليه؛ لأنَّ بعض الأساليب يتضح فيه المقصود فلا يحتاج إلى قيد، وبعضها لا يتعين المراد فيه إلا بقيد يدل عليه، وكل منهما حقيقة في محله. وقِسْ على هذا جميع أنواع المجازات.
وعلى هذا، فلا يمكن إثبات مجاز في اللغة العربية أصلاً، كما حققه العلامة ابن القيم -رحمه الله- في «الصواعق»؛ وإنما هي أساليب متنوعة بعضها لا يحتاج إلى دليل، وبعضها يحتاج إلى دليل يدل عليه. ومع الاقتران بالدليل يقوم مقام الظاهر المستغني عن الدليل. فقولك: "رأيتُ أسدًا يرمي" يدل على الرجل الشجاع، كما يدل لفظ الأسد عند الإطلاق على الحيوان المفترس.
ثم إنَّ القائلين بالمجاز في اللغة العربية اختلفوا في جواز إطلاقه في القرآن.
فقال قومٌ: لا يجوز أن يقال في القرآن مجاز، منهم ابن خُوَيز مِنداد من المالكية، وابن القاص من الشافعية، والظاهرية.
وبالغ في إيضاح منع المجاز في القرآن الشيخ أبو العباس ابن تيمية، وتلميذه العلامة ابن القيم رحمهما الله تعالى؛ بل أوضحا منعه في اللغة أصلًا.
والذي ندين الله به، ويلزم قبوله كل منصف محقق: أنه لا يجوز إطلاق المجاز في القرآن مطلقًا على كلا القولين.
أمَّا على القول بأنه لا مجازَ في اللغة أصلاً -وهو الحق- فعدم المجاز في القرآن واضح، وأمَّا على القول بوقوع المجاز في اللغة العربية فلا يجوز القول به في القرآن.
وأوضح دليلٍ على منعه في القرآن إجماع القائلين بالمجاز على أنَّ كل مجاز يجوز نفيه، ويكون نافيه صادقًا في نفس الأمر، فتقول لمن قال: رأيت أسدًا يرمي، ليس هو بأسد، وإنما هو رجل شجاع؛ فيلزم على القول بأنَّ في القرآن مجازًا أنَّ في القرآن ما يجوز نفيه.
ولا شكَّ أنه لا يجوز نفي شيء من القرآن، وهذا اللزوم اليقيني الواقع بين القول بالمجاز في القرآن، وبين جواز نفي بعض القرآن قد شوهدت في الخارج صحته، وأنه كان ذريعةً إلى نفي كثير من صفات الكمال والجلال الثابتة لله في القرآن العظيم.
وعن طريق القول بالمجاز توصل المعطلون لنفي ذلك فقالوا: لا يد، ولا استواء، ولا نزول، ونحو ذلك في كثير من آيات الصفات؛ لأنَّ هذه الصفات لم ترد حقائقها؛ بل هي عندهم مجازات. فاليد مستعملة عندهم في النعمة أو القدرة، والاستواء في الاستيلاء، والنزول نزول أمره، ونحو ذلك، فنفوا هذه الصفات الثابتة بالوحي عن طريق القول بالمجاز.
مع أنَّ الحق الذي هو مذهب أهل السنة الجماعة إثبات هذه الصفات التي أثبتها تعالى لنفسه، والإيمان بها من غير تكييف، ولا تشبيه، ولا تعطيل، ولا تمثيل". (ص 5-7).
ومِنْ هنا يظهر سبب إنكار المجاز في القرآن، بل والتجاوز إلى إنكاره في اللغة؛ وهي المسائل الدينية الاعتقادية؛ ومسائل الصفات الإلهية بشكل خاص التي اشتد الجدال بشأنها في أوساط الفرق الإسلامية، ولا سيما المعتزلة، والأشاعرة، والحنابلة.
وقال في «الإجابة على مما ادُّعِيَ فيه المجاز»:
"فإن قيل: ما تقول أيُّها النافي للمجاز في القرآن في قوله تعالى: (جدارًا يريد أن ينقض فأقامه). [الكهف: 77]. وقوله: (واسأل القرية). [يوسف: 82]. وقوله: (ليس كمثله شيء). [الشورى: 11]. واخفض لهما جناح الذل من الرحمة. [الإسراء: 24].
فالجواب: أَنَّ قولَه: (يريدُ أن ينقضَّ)، لا مانعَ مِنْ حمله على حقيقة الإرادة المعروفةِ في اللغة، لأَنَّ الله يعلمُ للجماداتِ ما لا نعلمُه لها؛ كما قال تعالى: (وإنْ من شيءٍ إلا يسبِّحُ بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم). [الإسراء: 44].
وبالنظر إلى ما قاله الشيخ الشنقيطي، وإذا ما اتبعنا طُرق النقد المعروفة بوضع هذا الكلام على محكِّ الواقع، يظهر لنا تهافت كلام الشيخ بزعمه أنَّ للجدار إرادة حقيقية؛ وهو ما لم يجرؤ حتى ابن تيمية على الذهاب إليه، وإن كان ابن عقيل الحنبلي ممن ذهب إليه كما أشار ابن تيمية في فتاواه، واضطرب رأيه فيه كما جرى مع الشنقيطي.
فإذا كان للجدار هنا إرادةٌ حقيقية، فهل للرمح إرادة ورغبة مثلها في قول الشاعر:
يريدُ الرمحُ صدرَ أبي براءٍ * ويرغبُ عن دماء بني عُقيلِ؟
ويقول أيضًا في تفسيره «أضواء البيان» عند قوله تعالى: (فوجدا فِيهَا جِدارًا يُريدُ أَن يَنقَضَّ فأقامه):
"هذه الآية الكريمة من أكبر الأدلة التي يستدل بها القائلون بأنَّ المجاز في القرآن؛ زاعمين أنَّ إرادة الجدار الانقضاض لا يمكن أن تكون حقيقة، وإنَّما هي مجاز.
وقد دلت آيات من كتاب الله على أنه لا مانع من كون إرادة الجدار حقيقة، لأنَّ الله تعالى يعلم للجمادات إراداتٍ وأفعالاً وأقوالاً لا يدركها الخلق؛ كما صرح تعالى بأنه يعلم من ذلك ما لا يعلمه خلقه؛ في قوله جل وعلا: (وإنْ من شيء إلا يسبح بحمده، ولكن لا تفقهون تسبيحهم). [الإسراء: 44]. فصرح بأننا لا نفقه تسبيحهم. وتسبيحهم واقع عن إرادة لهم يعلمها هو جل وعلا، ونحن لا نعلمها. وأمثال ذلك كثيرة في القرآن والسنة.
فمن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى: (وإنَّ من الحجاة لما يتفجر منه الأنهار، وإنَّ منها لما يشقق فيخرج منه الماء، وإنَّ منها لما يهبط من خشية الله). [البقرة: 74].
فتصريحه تعالى بأنَّ بعض الحجارة يهبط من خشية الله دليل واضح في ذلك؛ لأنَّ تلك الخشية بإدراك يعلمه الله ونحن لا نعلمه.
وقوله تعالى: (إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها، وحملها الإنسان). [الأحزاب: 72].
فتصريحه -جل وعلا- بأنَّ السماء والأرض والجبال أبت وأشفقت؛ أي خافت- دليل عن أنَّ ذاك واقع بإرادة وإدراك يعلمه هو جل وعلا، ونحن لا نعلمه...
وزَعْمُ مَنْ لا عِلمَ عنده أنه هذه الأمور لا حقيقةَ لها، وإنما هي ضرب أمثال- زعمٌ باطل؛ لأنَّ نصوص الكتاب والسنة لا يجوز صرفها عن معناها الواضح المتبادر إلا بدليل يجب الرجوع إليه. وأمثال هذا كثيرة جداً.
وبذلك تعلم أنه لا مانع من إبقاء إرادة الجدار على حقيقتها؛ لإمكان أن يكون الله علم منه إرادة الانقضاض، وإن لم يَعْلمْ خلقه تلك الإرادة. وهذا واضح جداً كما ترى.
مع أنه من الأساليب العربية إطلاق الإرادة على المقاربة والميل إلى الشيء. كما في قوله الشاعر:
في مهمهٍ قَلِقَتْ به هامَاتُها ... قلقَ الفؤوسِ إذا أردنَ نُضولا
فقول: (إذا أردن نضولا)؛ أي قاربنه.
وقول الآخر:
يريدُ الرمحُ صدرَ أبي براءٍ * ويعدلُ عن دماء بني عُقَيل
أي يميل إلى صدر أبي براءٍ
وكقول راعي نمير:
إن دهرًا يلف شملي بجُمْلٍ ... لزمانٌ يهم بالإحسانِ
فقوله: (لزمانٌ يهم بالإحسان)؛ أي يقع الإحسان فيه. (3/ 340- 341).
فهل يعقل أن يكون للجدار، وهو الجماد المسخَّر، إرادةٌ حقيقية. وكيف تتناقض إرادته مع إرادة الله الذي أراد من الخضر أن يقيمه؟
ولو سلمنا جدلاً أنَّ للجدار إرادة حقيقية؛ فهل للرمح إرادة حقيقية في أن ينال من صدر أبي براء؟
وهل له رغبة حقيقية في العدول عن دماء بني عُقيل؟ أم أنً الإرادة والرغبة لصاحب الرمح، ونسبتها للرمح عن طريق التجوز والاتساع في اللغة؟!
وإذا فُسِّرتْ الإرادة بالميل هنا، فبماذا تفسر الرغبة؟ هل هي رغبة حقيقية، أم هي استعارة ومجاز من اللغة؟
فعبر عن عدم التعرض لهم بالرغبة عن دِمائهم، وتنزهه عن إلحاق الأذى بهم؛ كما يتنزه العاقل والمؤمن عن سفك الدماء. وهي استعارة بمكانٍ رفيعٍ مِنْ البلاغة.
ولِمَ اختلف تفسير الشنقيطي للإرادة في كُلٍّ من الآية والبيت، مع أنَّ فاعلهما من صنف واحد، وهما جماد؟
فالجدار زَعمَ أنَّ له إرادةً حقيقية، أمَّا إرادة الرمح صدر أبي براء فليس إلا ميلاً إليه.
ولا شَكَّ أنَّ الشيخ الشنقيطي في تفسيره لبيت الشعر حاد عن تفسير الإرادة في معناها الحقيقي الذي ادعاه للجدار؛ فهو يدرك أنْ لا حركةَ للظلِّ دون صاحبه؛ ولذلك اختلف قولاه في تفسير الآية والبيت، فلم يجرِ فيهما على نسقٍ واحد، مع أنهما على شاكلةٍ واحدة.
إنَّ معظم اللغويين والمفسرين -إنْ لم نقل كلهم- ذهبوا إلى تفسير الإرادة في قوله تعالى: (جدارًا يريد أن ينقض) بأنَّ الجدار يكاد أو يوشك أن يسقط.
والسؤال هنا: لماذا عدل القرآن عن التعبير بـ (يوشك)، و (يكاد) بالفعل (يريد) لفاعلٍ لا تتأتى منه الإرادة بحال؟
لكأنَّ الصورة التي بدا عليها الجدار من التداعي والميل للسقوط أشبهت فِعلَ الإنسان العاقل صاحب الإرادة الحرة عندما يهمّ ويعزم على فِعْلٍ ما.
قال ابن منظور في «لسان العرب»: "وقوله عز وجل: (فوجدا فيها جداراً يريد أَن ينقضَّ فأَقامه). أَي أَقامه الخَضِر. وقال: يريد؛ والإِرادة إِنَّما تكون من الحيوان. والجدارُ لا يريد إِرادَةً حقيقية؛ لأَنَّ تَهيُّؤه للسقوط قد ظهر كما تظهر أَفعال المريدين؛ فوصف الجدار بالإِرادة؛ إِذ كانت الصورتان واحدة، ومثل هذا كثير في اللغة والشعر". (3/ 187).
وكذلك هي الصورة الشعرية في:
يُريدُ الرمحُ صدرَ أبي براءٍ...
فإنَّ توجُّهَ الرمحَ إزاء صدر أبي براء لينال منه ويصيبه يشبهُ فِعْلَ الرجل الذي إذا ما أراد أن يفتك بعدوِّه؛ مال نحوه واتجه إليه بالعدوان ليحقق مبتغاه؛ وهذا فعل المريد حقًا.
وفي الجهة المقابلة نلاحظ تصوير الرمح في الكفِّ وعدم الرغبة في أن ينال بأذاه بني عُقيل، بكفَّ الرجل العاقل عن وليِّهِ فلا يمسُّهُ بأذى.
وهذه الصورة -لعمري- في الذروة العليا من البلاغة. فاستخدام الفعل (أراد) لا شَكَّ أنها أبلغ من استخدام فعل آخر كالميل الذي لا يؤدي مثل هذا الغرض المطلوب.
وحتى مع ادعاء الشنقيطي أنَّ (يريد) هنا بمعنى (يميل) لا يستقيم معه تركيب الجملة، بل إنه يؤدي لفسادها وعدم انتظام معناها. فإنَّ الفعل (أراد) يتعدى بنفسه؛ أمَّا فعل الميل فيحتاج أن يُعدَّى بحرف الجر (إلى) حتى يستقيم معه المعنى. وبهذا يظهر الفرق الشاسع والبون الكبير بين كلا التعبيرين.
وانظر كيف تناقض الشنقيطي، وإقراره بالمجاز دون أن يشعر في تفسير هذا البيت:
إنَّ دهرًا يلف شملي بجُمْلٍ ... لزمانٌ يهم بالإحسانِ
فقال: "(لزمانٌ يهمُّ بالإحسان)؛ أي يقع الإحسان فيه".
فلو كان هذا التعبير على حقيقته على حسب ما ورد؛ أي أنَّ الزمان نفسه يهِمُّ بالإحسان، فَلِمَ لم يُبقهِ على ظاهره عند تفسيره؟ ولم عدل عنه وتأوّلَ معناه بقوله: "أي يقع الإحسان فيه؟!".
أليس هذا هو عين ما يذهب إليه أرباب البلاغة القائلين بالمجاز؛ فيسمونه مجازًا عقليًّا. حيث أسند الفعل (يَهِمُّ) إلى غير ما هو له؛ وهو ضمير (زمانًا)؛ للملابسة التي بينهما، وهذه الملابسة هي كون الزمان ظرفًا يقع فيه الإحسان. لذلك جعل الشاعرُ الهمَّ بالإحسان للزمان على سبيل التجوز.
وقال المفسر ابن عطية الغرناطي-رحمه الله- في «المحرر الوجيز» عند تفسير الآية نفسها: "(يريد) استعارة، وجميع الأفعال التي حقها أن تكون للحي الناطق متى أُسندت إلى جماد أو بهيمة، فإنما هي استعارة. أي لو كان مكان الجماد إنسان، لكان ممتثلاً لذلك الفعل، فمن ذلك قول الأعشى:
أتنتهون ولا يَنهى ذوي شططٍ * كالطعنِ يذهبُ فيهِ الزيتُ والفُتُلُ
يريدُ الرُّمحَ صدرَ أبي براءٍ* ويرغب عن دماءِ بني عُقَيلِ
ومنه قول عنترة:
وشكا إليَّ بعبرةٍ وتحمحمِ.
وقد فسر هذا المعنى بقوله: (لو كان يدري ما المحاورة). البيت. ومنه قول الناس: داري تنظر إلى دار فلان. ومنه قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: لا تتراءى نارُهما. وهذا كثير جِدًّا". (371- 472).
وقال الزمخشري:
"(يريد أن ينقض): استعيرت الإرادة للمداناة والمشارفة، كما استعير الهمّ والعزم لذلك... قال حسان:
إنَّ دهرًا يلف شملي بِجُمْلٍ * لزمانٌ يَهُمُّ بالإحسانِ
وسمعتُ من يقول: عزم السراج أن يطفأ، وطلب أن يطفأ. وإذا كان القول، والنطق، والشكاية، والصدق، والكذب، والسكوت، والتمرد، والإباء، والعزة، والطواعية، وغير ذلك مستعار للجماد، ولما لا يعقل، فما بال الإرادة؟!
قال:
لا ينطق اللهوَ حتى ينطق العودُ... وشكا إلي بعبرةٍ وتحمحمِ... فإن يكُ ظني صادقًا وهو صادقي. (ولما سكت عن موسى الغضب)". (الكشاف باختصار: 4 /42).
(للحديث بقية).