لم أبكِ بعد، لأن الحزن الكبير لا يستجيب بسهولة. إنه يثقل الروح، يتحجر في القلب، يتراكم في تجاويف الصدر كغبار الزمن. إنه صمت الأشياء التي كانت ولم تعد، صمت البيت الذي كان يتكلم، صمت الكتب التي لم تُكمل جملتها الأخيرة. الحزن الحقيقي لا يعلن عن نفسه بالبكاء، إنما بالسكون.
فقدتُ كل شيء، لكن كل شيء لم يذهب. لا البيت بيت، ولا المكتبة رفوف وكتب. الأشياء التي أحبها لم تمت حين انهارت، إنها تحولت، تخفّت في الزوايا، تسربت في الهواء، اختبأت في ألياف الجسد. لم أفقد مكتبتي، فهي في صوتي حين أستعيد سطرًا حفظته ذات يوم، في يدي حين تمتد لتقلب صفحة غير موجودة. ولم تغب أختي وابنتها، فهما في حزني الذي لا يعرف كيف يصير دموعًا، في الحنين الذي لا يعرف كيف يعود.
التنهيدة التي تخرج من عمقي ليست مجرد زفير، إنها إعادة ترتيب للفوضى، محاولة لفهم ما لا يُفهم، إعلانٌ غير معلن بأنني لا أزال هنا. لا تنهيدة تنقذني، ولا تنهيدة تخذلني، لكنها تمنحني لحظة واحدة بين ما انهار وما سيُبنى. لحظة تقول لي:
"لا شيء يعود كما كان،
لكن لا شيء يضيع تمامًا."
لا أحد يعرف كيف يُحمل هذا الحزن. لكن ربما، في وقت ما، سأجد طريقة لهندسته من جديد، ليكون بناءً آخر، ليكون مكتبة غير مرئية، بيتًا لا جدران له، لكنني أسكنه رغم ذلك.
وإن احتجتُ إلى أن يصغي أحد لصمتي، إلى أن يسمع تنهيدتي دون أن يسأل، فأنا هنا، معي.
* الصورة المرفقة لمروة، ابنة أختي شيماء، وكلتاهما ارتقيتا في٢٢ أكتوبر٢٠٢٣.