وضعت أطول حرب عربية إسرائيلية (7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 - 19 يناير/كانون الثاني 2025) أوزارها فوق كاهل الفلسطينيين كالعادة، ولأنها ربما أهم حرب منذ حرب حزيران 1967، فإنها تحفّز توترًا في المرء بين الرغبةِ في تناوله بالتفكير والتأمل، مع الرغبةِ عن التعجل في قول شيءٍ عن حدثٍ ضخم كهذا حددت أصداؤه الأوليّة فقط مصير قوى وأنظمة في الشرق الأوسط وستحدد امتداداته الكثير في المجال العربي لأعوامٍ طويلة، ولا مخرج من هذا التناقض غير تقبله بالاكتفاء بكتابة هوامش عن بعض جوانب الحدث الكبير.
ثمّة بالطبع نقاش النصر والهزيمة، ونقاشٌ ثانٍ عن تهافت النقاش الأوّل، والنقاشان فيهما وجهات نظر قمينة بالتأمل، ولكن هذه الحرب هي من تلك الحروب التي لا يستطيع المرء فيها الحديث عن نصر أو هزيمة أصلًا؛ لا لأن الطرفين غير متكافئين أو لأن أحدهما مُستعمَر والآخر مستعمِر أو غير ذلك مما يُقال عادةً من حجج تدعيمًا لهذا الرأي، بل لأن طرفيها لم يحققا أهدافهما النهائية منها، وبالتالي لا مجال فيها مبدئيًا إلا لحسابات المكسب والخسارة.
أرادت إسرائيل من حرب الإبادة إنهاء حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وتهجير الفلسطينيين من غزة، فلا حماس انتهت ولا الفلسطينيون خرجوا من غزة. أما الأفق الذي وضعته المقاومة لطوفان الأقصى فكان بدء معركة "تحرير فلسطين"، وهو ما لم يتحقق (مع الإشارة إلى أن مضمون التحرير غير واضحٍ أساسًا عند حركات المقاومة في غزة)، بل لحق بغزة، مجتمعًا ومؤسساتٍ ومقاومة، دمار كابوسيّ، علاوة على الضربات التي لحقت بالضفة الغربية ويرجح أنها ستتوالى في هذا العام.
ثم إن هذه "الصيحة" في البلاغة المقاوِمة التي تتحدث عن انتصارات هي أمر غريب عن حركات الكفاح المسلح وتحتاج نقدًا وبحثًا عن أصولها (ربما أدخلتها المقاومة الإسلامية في لبنان "حزب الله" في قاموسنا السياسي)؛ فالانتصار الوحيد الذي تعد به حركات التحرر مقاتليها وشعوبَها هو طرد الاستعمار؛ أما دون ذلك فالمقاومة تستنزف المحتل ولكنها لا تهزمه، ولا تستطيع أن تهزمه، بل تواصل ضرباتها وتتحمل ضرباته إلى أن يرضخ وينسحب.
في النقاشات الدائرة حول النصر والهزيمة فائدة أخرى علاوة على النقاش ذاته؛ هي تشخّص أمراض مزمنة في تفكيرنا الجمعي تحتاج التأمل، خاصة عند من يرى ما حدث في غزة انتصارًا. أولها هو هذا التصوّر الحَدّي للمعارك قياسًا على حروب أخرى حيث الهزيمة والنصر واضحان، والنزوع إلى حَنْي واقعنا ليلائم إطار التصوّر خدمةً لموقفٍ مسبق؛ من يراها هزيمة لا يرى بقاء الفلسطينيين بل وبقاء القتال حتى آخر لحظة قبل وقف إطلاق النار رغم هول الفارق بين القوّتين بل وحشد أكبر إمبراطورية في العالم مواردها وتقنيتها وثقافتها وأتباعها في العالم إلى صف إسرائيل ضد مقاومة محاصرة تكاد تكون مُعدَمَة في زاوية جغرافية مستوية، هذا علاوة على أن الاتفاق ينص على الانسحاب الإسرائيلي من غزة. ومن يراها انتصارًا لا يرى الكارثة البشرية التي أنزلَت على غزة وبترت تراكمها النضالي والحضاري وستتعاورها لعشرات السنين دون أن تحقق المقاومة أهدافها من الحرب، بل ولا يقدّر الاستنزاف الفتّاك الذي أصاب المقاومة وستتكشف مضاعفاته في مقبل الأيام.
الأمر الثاني هو الخلط بين البطولة والانتصار، وما يترتب عليه من اعتبار عدم رؤية الثاني جَحدًا للأول. ما حدث في غزة ملحمة من ملاحم العرب يتمفصل عندها تاريخهم الحديث، وتعظيم البطولة هو إقرارٌ بل وواجبٌ أخلاقي، ولكنها ليست الانتصار، بل إن البطولة في التاريخ والأدب إن كانت تقترن بشيء فهي تقترن أكثر بالانكسارات والهزائم لا الانتصارات. إن الواجب الأخلاقي ليس هو التحليل السياسي، ومن يعتقد أن الاثنين شيءٌ واحد يضرّ بقضيّته قبل أن يضر أحدًا آخر.
كما أن تقديم الصمود ومجرّد البقاء انتصارًا هو أمرٌ قديم في ثقافتنا السياسية ويعتنقه الإسلاميّون اليوم كما اعتنقه القوميون قبل نصف قرن (ولا يزالون)؛ بعد حرب 67 مثلًا ظهرت أصواتٌ تقول إن العرب عمليًا لم يُهزَموا في تلك الحرب لأن هدفها الإسرائيلي كان القضاء على الأنظمة القومية ولكنها صمدت ولم تسقط، بل إن الثقة الشعبية في كبير تلك الأنظمة، وهو النظام الناصري، تجددت بضخامة لا يدانيها الشك. أضحى من البديهيات (وهي من البديهيات المحمودة) وصف تلك الأصوات بالتخشب، ولكن يبدو أن على الإسلاميين خاصة وكثير ممن يدعم المقاومة عامة الإدراك أن الأمر ليس حكرًا على فصيلٍ أو نظام؛ هم أيضًا يقتاتون وينتجون ذات الخطاب المتخشّب والبلاغة الركيكة التي تفننّا جميعًا طوال عقود في السخرية منها.
إذا ما انتقلنا إلى المكاسب والخسائر، بالطبع كانت الخسائر الفادحة، والأفدح، من نصيب غزة وفلسطين؛ مجرد سرد الأرقام الأولية عن القتلى والمعاقين والمساكن والمشافي والمؤسسات والجامعات والآثار التي دُمرت- مجرد رص إحصاءات الإبادة يحتاج مساحة مقال. ثم إن غزة علاوة على ذلك أخذت النصيب المؤكّد من الخسائر. تضررت إسرائيل دوليًا وعادت القضية الفلسطينية على جدول العالم وزيّنت إسرائيل صورتها بأشلاء آلاف الأطفال ولوّنتها بدمائهم فعكّرت عملَ أكثر من سبعة عقود في رسم صورة راقية عن ذاتها في المجتمعات الغربية، وهذه خسارة خطيرة إنْ وجدت أحدًا يجعلها خطيرة؛
أي أنها ليست خسارة مدمرة في ذاتها بدون عمل ونضال مجهدَيْن يضطلع بهما العرب وأصدقاء فلسطين في العالم. أما إقليميًا فإن المقاومة تلقت ضربة في المحور الذي يسندها بينما حققت إسرائيل نجاحات حاسمة فعلًا: بلغت هدفها القديم بضرب حزب الله وإخماد ما تسميه "طوق النار" وإرجاع إيران إلى حدودها، ولم يبقَ من أحلامها تجاه محور المقاومة إلا تدمير المشروع النووي الإيراني.
وبعد كل نقاش عن النصر والهزيمة أو المكاسب والخسائر يبقى أن المقاومة الفلسطينيّة والاحتلال الإسرائيلي يخرجان من هذه الحرب بأمر مشترك وهو المأزق والأفق المسدود. فعلت إسرائيل في هذه الحرب ما يصعب تخيّله من فظائع، وحشدت مجتمعها واقتصادها وحلفاءها الأعتى في العالم الذين تقاطروا إليها وقوفًا معها بالمال والسلاح والبوارج والسياسة والصحافة، وارتكبت الإبادة على الهواء مباشرة طوال 15 شهرًا، ولكن النتيجة السياسية محدودة بالقياس إلى ما يمكن لإبادة أن تفعله في شعب وحركة مقاومة. وفي كلامٍ آخر، بعد حرب غزة وصل الحل العسكري الإسرائيلي للقضيّة الفلسطينيّة إلى ذروته ولكن أيضًا منتهاه؛ ثَبت أن الإبادة لا تجدي في تصفية مقاومة الشعب الفلسطيني بَلْه قضيّته. أما بالنسبة للمقاومة الفلسطينية، فاتضح أيضًا أن حركات الكفاح المسلح في فلسطين لها خصوصيّة جغرافية وسكانية بين مثيلاتها في العالم الثالث التي تُقاس دائمًا عليها (تحديدًا الجزائر وفيتنام) ولا يمكن حل القضية الفلسطينية بالطريقة التي اتبعتها المقاومة الفلسطينية في غزة؛ أي عدم استنزاف العدو بل السيطرة على منطقة صغيرة مكتظة بالسكان ثم الانطلاق منها. حققت المقاومة نجاحًا عسكريًا صاعقًا في 7 أكتوبر ولكن تقاطع نقطة ضعفها الجغرافيّة مع نقطة قوّتها السكانيّة جعلت الفلسطينيين يدفعون أثمانًا لم يدفعوها في النكبة ذاتها وكانت النتيجة سياسيًا لا شيء.
إلى أن نجد مخرجًا من هذا المأزق، يهدينا استيعاب المكاسب والخسائر إلى ما يجب عمله في القريب العاجل؛ إسرائيل دمرت غزّة بما هي مجتمع، وكان لهذا هدف هو التهجير في مراحل الهدنة بعد الفشل في ذلك بالحرب، وبالتالي فالجبهة الكبرى هي جبهة إعادة الإعمار ورتق تمزقات المجتمع الفلسطيني في غزة. وعلينا كذلك إيجاد طريقة لتعميق وتكريس خسائر إسرائيل دوليًا؛ فقد اتضح من هذه الحرب أن هذا هو مقتل إسرائيل دولةَ احتلال وفصل عنصري.
دمرت هذه الحرب الخرافات العربية المزمنة عن ضعف وهشاشة المجتمع الإسرائيلي؛ ثَبُت أنه مجتمع متماسك وقوي كما أنه يُجَر إلى الهيستيريا الإفنائيّة بسهولة، ولكن مقابل قوة المجتمع وتقدّمه العلمي والاقتصادي هناك هشاشة الدولة استراتيجيًا نتيجة ضآلة الجغرافيا والسكان وغربتها الثقافيّة والتاريخيّة عن منطقتها، واعتماديّتها الملفتة على القوى الغربيّة في تأمين المدد السياسي والعسكري والثقافي في مواجهة مقاومة محليّة صغيرة الحجم والمكان.
إذا استطعنا يومًا قطع خط الإمداد هذا بين الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل فإن أبواب الانتصار الحقيقي على الصهيونيّة ستكون مشرعة أمامنا.