خلال نظام صالح في اليمن، كان ينظر للسلطة، وبالذات المؤسسات الخشنة، بأنها تحت هيمنة "منطقة الهضبة"، وجماعة الإخوان المسلمين. وبعد سقوط نظام صالح، خططت ونفذت أطراف عديدة، من أهمها: الرئيس الكارثة هادي، والأحزاب اليسارية بزعامة الحزب الاشتراكي، وبعض القوى المناطقية، لهيكلة المؤسسات الخشنة، تمهيدًا لتفكيك الجمهورية اليمنية، تحت لافتة الدولة الاتحادية.
ولتنفيذ ذلك المخطط، تحالفت تلك القوى، فعليًا وضمنيًا، مع المليشيات الحوثية، وسلمتها العاصمة صنعاء.
وكما هو معروف فقد نتج عن ذلك، تفكيك الجمهورية اليمنية إلى كانتونات متصارعة تديرها الدول الأجنبية. وحتى الوقت الحالي، مازالت القوى التي تحالفت مع الحوثي، تُفضل أن تبقى الجمهورية اليمنية، ممزقة، ودون سيادة، على أن تعود دولة واحدة خشية أن تُهيمن عليها "الهضبة" من جديد.
وفي السودان، هناك أوضاع مشابهة لما حدث ويحدث في اليمن؛ فمنذ اندلاع الحرب التي أدت إلى تفكيك الدولة السودانية، هناك أطراف سودانية عديدة ترفض أن تعود سيطرة "الجيش السوداني" على الدولة. وحجتهم، أنه ليس جيشًا وطنيًا منذ أن سيطرت الجبهة الإسلامية القومية (النسخة السودانية النشطة لحركة الإخوان المسلمين) على الحكم في الانقلاب العسكري عام 1989. فمنذ ذلك التاريخ، عمد نظام "الجبهة" بقيادة البشير، إلى أخونة الجيش، إن جاز التعبير. فتم تسريح الضباط غير الموالين، وأصبح معظم الملتحقين بالكليات العسكرية من أعضاء التنظيم، أو القريبين منه. وكل ذلك أدى عمليًا، إلى خلق جيش حزبي.
ولسوء حظ السودان، فإن الجيش الحزبي، هو الطرف الوحيد القادر، موضوعيًا وفنيًا، على إنهاء الحالة المفككة للدولة، ومن ثم استعادة الدولة السودانية. فهذا الجيش يملك الشرعية الداخلية، وإن في حدودها الدنيا، والاعتراف الخارجي من كل دول العالم تقريبًا، وهو ما يؤهله لإعادة السيطرة على البلد أو المناطق الاستراتيجية منه على الأقل.
أما الطرف الآخر، قوات الدعم السريع (مليشيات الجنجويد)، فهي غير مؤهلة للقيام بذلك الدور، ويرجع السبب في ذلك إلى طبيعتها المليشياوية. فقد شكلها نظام البشير من قبائل الرزيقات الرعوية العربية، بغرض مساعدته في إنهاء التمرد في إقليم دارفور، بداية الألفية. وخلال تلك الفترة ارتكبت جرائم حرب نمطية، أحيلت لمحكمة الجنايات الدولية، ومازالت هذه القضايا تنتظر المحاكمة.
وبحكم أنها تأسست كمليشيا؛ فإنها لا تملك المؤهلات الفنية والموضوعية لتقوم بدور الجيش الرسمي، والدليل على ذلك، ما حدث منذ بداية الحرب؛ فالجنجويد، سيطروا، حينها، بشكل كلي أو جزئي، على المراكز السيادية في العاصمة، إلا أنهم لم يحولوا تلك السيطرة إلى انقلاب فعلي؛ لافتقارهم لأي مشروع سياسي يمنحهم المبرر لإعلان أنفسهم حكومة وطنية. وكل ما فعلوه أنهم عطلوا مؤسسات الدولة، وأنهوا الوجود الفعلي للحكومة السودانية، في العاصمة.
إلى جانب ذلك، برهن الجنجويد على أنهم قوى إجرام وتدمير، ففي المناطق التي سيطروا عليها، مارسوا القتل والاغتصاب والنهب وتدمير الممتلكات، بشكل ممنهج، ولم يتصرفوا كقوة مسؤولة تشبه القوات الرسمية، وإن في الحدود الدنيا.
صحيح أن عودة نظام البشير الفاشل، بأية صيغة من الصيغ، لحكم السودان، هي أمر سيئ بكل المقاييس، إلا أن الأسوأ من ذلك استمرار الوضع الحالي (حرب، وانهيار الدولة). فهذا الوضع خلق أكبر كارثة إنسانية في الوقت الحالي، تجاوزت الكارثة الإنسانية في اليمن. فبحسب، بعض التقارير، أدت الحرب في السودان إلى نزوح أكثر من 15 مليون داخل السودان، ولجوء أكثر من مليونين إلى الخارج. بالإضافة إلى مقتل مئات الألوف، وتدمير هائل للبنية التحتية والممتلكات، وتعطيل شبه كامل للمقومات الأساسية للحياة الطبيعية. وعودة الدولة تحت حكم الجيش الحزبي، بكل مساوئه، ستُخفف من حجم هذه الكوارث، وقد تفتح الباب أمام سلام نسبي في المستقبل.
قد يقول قائل بأن حصر خيارات عودة الدولة السودانية من خلال سيطرة الجيش الحزبي فقط، غير صحيح، وأن هناك خيارات أخرى من قبيل وقف الحرب والدخول في مفاوضات تشترك فيها كل الأطراف الفاعلة عسكريًا، ومدنيًا، برعاية أممية أو إقليمية، ينتج عنها نظام سياسي جديد يكفل الحقوق المتساوية لجميع السودانيين، ويقيم الدولة الديمقراطية الموعودة.
ومن خلال التجربة المعاشة في السودان وفي دول أخرى منها اليمن وليبيا، والتي ظروفهم أفضل من السودان، فإن تلك الحلول ليست سوى أحلام، وتمنيات ليس إلا. فوقف الحرب يبدو مستحيلًا بالنظر إلى طبيعة ساحات المعارك المنتشرة في مناطق جغرافية متباعدة. وغياب الرغبة لدى طرفي الصراع، وتحديدًا الجيش، في وقف الحرب. وكذلك غياب الطرف، أو الأطراف الخارجية القادرة على فرض وقف لإطلاق النار أو هدنة، وهي الخطوة الضرورية لعقد مفاوضات سلام.
وحتى لو وقفت الحرب، أو لنقل تجمدت؛ فإن هذا الأمر لن يخدم السودان لأنه سيكون توقفًا مؤقتًا، يمنح الأطراف المتحاربة، والدول المتدخلة، فرصة لترتيب نفسها لجولات جديدة من الحرب، قد تكون أكثر تدميرًا من هذه الحرب. كما أنه قد يؤدي إلى اشتراك قوى داخلية وخارجية جديدة في الصراع. وكل ذلك قد يؤدي إلى ضياع الفرصة الوحيدة المتاحة حاليًا لاستعادة الدولة.
أكدت التجربة التاريخية أن الدول المفككة لا تنتهي حالة تفككها إلا بانتصار قوة واحدة وسيطرتها على كل أو معظم مناطق الدولة. وهذا الخيار، رغم تكلفته الإنسانية الباهظة، يبقى أفضل من حالة تفكك الدولة. ولهذا ففي حال كان هناك قوة، مهما كانت سيئة، تمتلك المقومات الفنية والموضوعية للسيطرة وإعادة الدولة، فإنها أفضل من غياب الدولة وتفككها.
إن حياد القوى الثالثة، إن صح التعبير، مثل القوى الحزبية وما تبقى من قوى المجتمع المدني، أو وقوف بعضها مع مليشيا الجنجويد، سيؤدي عمليًا إلى إطالة أمد الحرب، وبالتالي استمرار الكارثة التي يعيشها السودان.
فتعامل تلك القوى مع الجيش ومليشيا الجنجويد على قدم المساواة، يؤخر عملية استعادة الدولة. كما أنه يدفع الجيش للمزيد من الانغلاق الحزبي والتطرف الأيديولوجي، وهو ما يحدث حاليًا.
في المقابل، تأييد القوى الثالثة للطرف المؤهل موضوعيًا وفنيًا لاستعادة الدولة، سيهيئ الظروف لانفتاح الجيش على تلك القوى، ويخفف من اعتماده على القوى المتطرفة. كما أن هذا التأييد سيمنح شرعية أكبر لقوات الجيش، يسهل لها هزيمة الجنجويد، والتي يجب على القوى الثالثة التعامل معها كمليشيا غير مسؤولة.
صحيح أن سلوك بعض وحدات الجيش، وبخاصة بعض الأجنحة العقائدية المتطرفة، قد مارست جرائم مشابهة لما قامت به مليشيات الجنجويد، إلا أن معظم التقارير الواردة من السودان تؤكد على أن جرائم مليشيات الجنجويد كانت أكثر منهجية.
وفي كل الأحوال، فحتى لو تساوت انتهاكات الجيش السوداني مع الجنجويد، ففي النهاية ستؤدي هزيمة الجنجويد، إلى عودة الدولة السودانية، والذي يبقى هدفًا نبيلًا وساميًا، فيما انتصار الجنجويد، أو عدم هزيمتهم، لن يؤدي إلا إلى مزيد من الفوضى والدمار.
إن على السودانيين تحديد الأولويات وفق الظروف الحالية، فعودة الدولة من خلال سيطرة قوة واحدة على كل أراضيه، أو المناطق الاستراتيجية منه، ينبغي أن تكون مقدمة على أية قضايا أخرى، فالحق في الدولة هو أصل كل الحقوق وفصلها.