صنعاء 19C امطار خفيفة

سرديات غير مهنية لفترة الرئيس الحمدي

سرديات غير مهنية لفترة الرئيس الحمدي
الحمدي خلال الاحتفال بيوم المعلم 1976 (عبدالرحمن الغابري)

تابعت ما كتبه الزميل العزيز علي الضبيبي في صحيفة النداء بخصوص بناء الدولة ومؤسساتها منذ ثورة السادس والعشرين من سبتمبر وحتى فترة الرئيس الأسبق علي عبدالله صالح، متناولاً مراحل متعددة بخفة بعيدة عن سياقاتها وصراعاتها وظروفها، متحمساً لتقديم مقارنات غير مهنية صاغها بنفس المتباهي بقصد أو دون قصد للإساءة لفترة الرئيس الشهيد إبراهيم الحمدي.

 
وسرد الزميل الضبيبي الأحداث بصيغة مشوشة يستشف منها القارئ مسعى النيل من فترة الرئيس الحمدي وفق سرديات خصومه، فنجد طرحه لا يختلف عن طرح الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر من تحويل الحمدي للسلطة من الوضع الديمقراطي الشوروي إلى السلطة العسكرية وغير الشوروية. وهنا سأحاول سرد بعض النقاط التي تجاهلها الزميل الضبيبي أو أنه لا يعرفها، فوقع في هفوات لا يجب أن يقع بها من يكتب في قضايا التاريخ والصراعات.
 
حاول صديقي علي تناول مقارنات من زاوية المؤسسات التشريعية كوضعية شكلية بعيداً عن مهام هذه المؤسسات والتزامها بمهامها وصلاحياتها، ووضع الدولة والصراعات التي كانت تعيشها في كل مرحلة، لتغيب عنه بعض الحقائق التي ربما منعته من التحليل السليم. وما لفت نظري هو التوظيف السطحي للوقائع للنيل من فترة الرئيس الشهيد الحمدي وتحميلها ما لا تحتمل، متعسفاً الحقائق والأحداث، وقافزاً على طبيعة الصراع خلال فترة الرئيس عبد الرحمن الإرياني رحمه الله، والتي كان المجلس الوطني ومن ثم مجلس الشورى طرفين رئيسين فيها دفعا الرئيس الإرياني لأكثر من مناسبة لتقديم استقالته، وهو حال الحكومات المتعاقبة بسبب التدخلات الدائمة من قبل رئيس المجلس الوطني عبدالله بن حسين الأحمر والرئيس اللاحق لمجلس الشورى.
 
قدم الضبيبي المجلس الوطني ومجلس الشورى كمؤسستين برلمانيتين متجاهلاً تجاوزهما لدورهما التشريعي إلى ممارسة السلطة التنفيذية والتدخل في شؤون الحكومة والمشاركة في إدارة البلاد، واستغلالها لصالح مراكز نفوذ تقاسمت السلطة وقادت البلاد إلى أوضاع متدهورة على كافة المستويات.
 
ولو عاد الزميل علي لشهادات ومذكرات رجال المرحلة، بما فيهم خصوم الحمدي، لاتضحت له حقيقة أن المجلس الوطني ومجلس الشورى كانا وعاءين لمراكز النفوذ المشائخي والقبلي لممارسة السلطة وتحقيق المصالح ومنازعة المجلس الجمهوري والحكومة الصلاحية وسلبها لمهامها في مواقف كثيرة، مما تسبب في إضعاف قوة الدولة وسلطة الحكومات المتتالية.
 
وفي هذه النقطة بالذات تعسف الصديق على الحقيقة وقدم موافقة المجلس على خمس حكومات في عهد الرئيس الإرياني كجانب إيجابي دون الإشارة إلى كيف كانت تزاح الحكومات، أو تدفع لتقديم استقالاتها بسبب الصراع مع رئيس مجلس الشورى، حتى أن إحدى تلك الحكومات لم تدم شهراً واحداً، والبعض كانت تستمر لشهور في الصراع مع ما يعتبرها علي مجلس تشريعي وينتهي بها المطاف بتقديم الاستقالات كحكومات محسن العيني وغيرها.
 
ومن يطلع على ما كتبه الصديق علي ينخدع بسرديته بأن المجلس عبارة عن مؤسسة برلمانية إن جاز لنا التعبير في التسمية تمارس دورها كسلطة تشريعية، ومهامها الـ 18 التي أوردها في مقاله، متناسياً أن رئيسها هدد باقتحام صنعاء بالقبائل في حال لم يقدم الرئيس الإرياني استقالته، وهو من كان يفترض به قبول استقالة الإرياني المتكررة، لكنه كان يرفضها دون حتى عرضها على مجلس الشورى، لا شيء سوى لقناعته أن ضعف الإرياني وفشله في السيطرة على الدولة يعد خياراً مناسباً لمراكز القوى التي كانت هي الحاكم الأقوى.
 
وهنا نشير إلى أن شخصية الإرياني المدنية والذكية والوطنية الصادقة أضعفتها مراكز النفوذ التي جعلت القاضي في مراحل عديدة يقوم بدور المصلح بين مراكز القوى ورؤساء الحكومات، عاجزاً عن مواجهة مصالح ورغبات مراكز الحكم القبلية والعسكرية الأخرى، كون السلطة الحقيقية كانت في يد الشيخ عبدالله الأحمر، والشيخ سنان أبو لحوم محافظ لواء الحديدة حينها، والشيخ مجاهد أبو شوارب محافظ لواء حجة، ونفوذ عسكري بيد الفريق حسن العمري.
 
وهنا نستطيع القول إن مجلس الشورى تعطل في مهامه منذ أن اختزل بشخصيات نافذة ومنذ استغلال رئيسه له لممارسة سلطة تنفيذية والضغط لتحقيق مصالح مرتبطة بمراكز القوى. في فترة الرئيس الإرياني وأيضاً الرئيس الحمدي لم تكن قوة الشيخ عبدالله الأحمر هي السلطة التشريعية بقدر قوته بخمر والمقاتلين القبليين، حتى أنه كان يتواجد في خمر أكثر من صنعاء خاصة في أوقات الخلافات والصراعات مع الدولة أو الرئيسين الإرياني والحمدي.
 
ولم تكن مهام مجلس الشورى وصلاحياته هي نقاط خلاف الشيخ الأحمر والرئيس الإرياني وحكوماته، بل تعيينات رئيس الحكومة والمساعي لتوقيف رواتب شؤون القبائل، ورفض الرئيس الإرياني مطالب الأحمر والسعودية للحرب ضد الجنوب، عندما كان رده إذا كانت السعودية تريد محاربة الجنوب فلتقاتل من حدودها.
 
كما أن وصم الرئيس الحمدي بأنه كان ضد بناء مؤسسات الدولة ومحتكراً للسلطة في يده دون مناقشة الظروف التي سبقت وتلت حركة 13 يونيو التصحيحية يعد تجنياً على الحقيقة، وتناولاً غير منصف، وفي تقديري أنها زلة وقع بها الزميل الضبيبي لحصره تناول الموضوع من زاوية اهتمامه البرلماني كونه متخصصاً في هذا الجانب.
 
ولو عاد الضبيبي لمرحلة تسلم الرئيس الحمدي للسلطة بعد استقالة الرئيس الإرياني والشيخ عبدالله بن حسين الأحمر وتقديمها للحمدي باعتباره نائب القائد العام للقوات المسلحة لأدرك أنه من ضمن الاتفاق بين المؤيدين للحركة بما فيهم الشيخ عبدالله هو تجميد مجلس الشورى خلال المرحلة الانتقالية وإعلان حالة الطوارئ، وهو ما تضمنه الإعلان الدستوري الأول في 19 يونيو 1974، وهي الخطوة التي لم يشير لها الزميل كما لم يشر إلى أن مجلس القيادة في إعلانه الدستوري الثاني بتاريخ 22 أكتوبر 1974م دعا مجلس الشورى للانعقاد وفقاً لما تنص عليه لائحته الداخلية ليمارس اختصاصاته المبينة في الدستور، محدداً المرحلة الانتقالية من ستة أشهر إلى سنة ميلادية اعتباراً من تاريخ صدور الإعلان يتم خلالها استكمال خطوات التصحيح المالي والإداري.
 
وأوكلت لمجلس الشورى خلالها مهام تقييم الماضي والحاضر بسلبياته وإيجابياته واستشراق المستقبل المنشود وتصوير الشكل والمضمون السليم الذي يجب أن يستقر عليه تنظيم سلطات الدولة العليا وإجراء التعديلات الدستورية اللازمة لتحقيق ذلك في الدستور الدائم، كما يتولى مجلس الشورى وضع قانون للانتخابات العامة بما يكفل للشعب مزيداً من الضمانات وسلامة التنفيذ والإعداد للانتخابات القادمة بتشكيل لجنة الانتخابات المنصوص عليها في الدستور وإقرار الدوائر الانتخابية في جميع أنحاء البلاد حسب ما جاء في الإعلان الدستوري الثاني.
 
وبالفعل عاد مجلس الشورى للانعقاد وفي افتتاح الجلسة الأولى له بحضور الرئيس الحمدي الذي ألقى كلمة قال فيها: "أن قرار عودة مجلس الشورى إلى ممارسة أعماله خلال فترة الانتقال قد جاء بعد تدارس وتحسباً لكل ما تقتضيه هذه الفترة من تعاون وجهود مشتركة بين السلطتين السياسية والتنفيذية والشعب باعتباره مصدر جميع السلطات ولأنه لا يتأتى للشعب أن يشارك ويتعاون إلا من خلال نواب ينتخبهم انتخاباً حراً ومباشراً، وبموجب قانون ينظم ويحدد أسلوب وطريقة الانتخاب كما ينص الدستور الدائم ولأن ذلك لا بد له من وقت كافٍ، فقد استقر الرأي كما نعلم جميعاً على أن يعود مجلس الشورى بشكله الأول ليشارك باسم الشعب في التعاون وبذل الجهود مع السلطتين طول فترة الانتقال، للإعداد للفترة المستقرة والدائمة، والتعاون والجهود المطلوبة ليست فقط في وضع قانون الانتخابات العامة الحرة والمباشرة، وإعادة النظر في بعض المواد للدستور الدائم للبلاد، وتعديلها وفق ما تلتقي عليه الآراء الشعبية العامة التي تمثلونها في هذه القاعة الجليلة، وما يستلزمه وجود حياة دستورية وديمقراطية ثابتة لنظامنا الجمهوري الخالد، إلا في سن التشريعات والقوانين واستكمالها ووضعها للسلطة التنفيذية لتنفيذها والتقيد بها."
 
وأضاف الحمدي في كلمته: "إنما أريد أن أؤكد على مبدأ أساسي وهو أن الحكومة أو القيادة لا تستطيع أن تصنع شيئاً إذا لم يوجد هناك تعاون صادق من هذا المجلس الموقر. إذا لم يستشعر الجميع مسئوليتهم فلن نستطيع أن نصنع شيئاً، وإذا كان الجميع سيجعلون من أعمالهم كممثلين للشعب وكلاء شريعة يدافعون عن أي خطأ فإننا لن نستطيع أن نصلح شيئاً، ولكننا نريد أن تكون هذه القاعة ممثلة حقيقية لقدسية الشورى وللصدق في التمثيل، تمثيل الشعب الحقيقي: أصالته وآماله وطموحاته، والدفاع عنه من أي خطأ يرتكب من السلطة التنفيذية، لا أن نكون عائقاً أمام أي مشروع أو أي إصلاح. وأنا أكرر وأؤكد مرة أخرى بأنكم ستجدون من القيادة ومن الحكومة كل التعاون في سبيل الإصلاح وفي سبيل المضي بالبلاد إلى أفضل الأوضاع وأصلحها. نحن هنا نؤكد بأننا قد وفينا بوعد مما وعدنا به بعد الثالث عشر من يونيو، ولم نحتكر السلطة. ونتمنى للمجلس كل توفيق في أعماله وسوف لن نضع أي عراقيل أمام عمل المجلس ونجاحه."
 
وحينها تم إقرار قانون الانتخابات البرلمانية، وتأسيس لجنة عليا للانتخابات، لكن مجلس الشورى لم ينجز مهامه بسبب رغبة رئيسه في القيام بنفس الدور الذي كان يمارسه في فترة الإرياني.
 
وكما كان معروفاً، فإن وضع القوات المسلحة والأمن قبل حركة 13 يونيو كانت تتبع مراكز قوى مشائخية وسلطوية، فالرئيس الإرياني والقائد العام للقوات المسلحة محمد الإرياني تتبعه قوات، وبيت أبو لحوم تتبعه قوات، وكذلك مجاهد أبو شوارب والشيخ عبدالله. فكان من أولويات الرئيس إبراهيم الحمدي بناء جيش وأمن بعقيدة وطنية وبكفاءة عالية، وهو الهدف الثاني من أهداف ثورة 26 سبتمبر العظيمة.
 
وعندما بدأ الحمدي خطواته التصحيحية في الجيش وإنهاء سيطرة مراكز النفوذ بتغيير القيادات من أسرة بيت أبو لحوم، ومجاهد أبو شوارب في 27 أبريل 1975م بما عرف لاحقاً بيوم الجيش، بدأت معارضة الرئيس الحمدي من مراكز النفوذ التي أضعفت الرئيس الإرياني، بما فيهم رئيس مجلس الشورى الذي انتقل إلى خمر محتمياً بقبيلته التي بدأت تلوح بمهاجمة صنعاء. ولولا سياسة اللين التي اعتمدها الحمدي، الذي أرسل عشرات الوسطاء له ليعود لصنعاء وممارسة عمله، لكنه رفض كل الوساطات بما فيها السعودية وأيضاً زيارة الحمدي المفاجئة له إلى خمر.
 
وللأسف الشديد، اعتبر الضبيبي أنه منذ 29 أبريل 1975 إلى 6 فبراير 1978 كانت الدولة اليمنية تسير برجلٍ واحدة: سلطة مجلس القيادة فقط. وهي مرحلة خروج الشيخ عبدالله الأحمر إلى خمر، رغم أن الرئيس الحمدي لم يحل مجلس الشورى إلا في 22 أكتوبر 1975م في الإعلان الدستوري الثالث، أي بعد قرابة خمسة أشهر من هذا التاريخ وبعد عام من عودة مجلس الشورى لعمله. وتضمن الإعلان الدستوري الثالث نصاً باتخاذ الإجراءات والترتيبات اللازمة لإجراء انتخابات نيابية جديدة، وذلك تحت إشراف اللجنة العليا للانتخابات وطبقاً للقواعد المنصوص عليها في قانون الانتخاب وعلى أساس من الجدية التامة والنزاهة الكاملة على أن يحدد رئيس مجلس القيادة الميعاد المناسب لإجراء تلك الانتخابات.

 

وقبل الإعلان الدستوري الثالث، عقد مؤتمر الروضة الذي شارك فيه عدد من أعضاء مجلس الشورى الذين لم يكونوا مع تعطيل مجلس الشورى وسلب دوره لصالح النفوذ المشائخي. وشارك في المؤتمر شخصيات وطنية وازنة من أعضاء مجلس الشورى، أمثال الشيخ منصور شايف العريقي الذي رأس المؤتمر، والمثقف والأديب يوسف الشحاري، وعبدالعزيز نصر، والأديب والمثقف محمد علي الربادي، والمطاع وآخرين.

 

وقرر هذا المؤتمر دعم جهود حركة 13 يونيو التصحيحية، وطالب مجلس القيادة حينها بحل مجلس الشورى لانتهاء فترته وعدم قيامه بمهامه ومسؤولياته. وترجمت هذه المطالب من خلال الإعلان الدستوري الثالث.

 
دخلت معارضة مراكز النفوذ القبلية للدولة وسلطة الحمدي في مناحي كثيرة واستقطابات عديدة عبر عنها الشيخ عبدالله في مذكراته بقوله إنه بعد خروجه إلى خمر بدأ مسار المعارضة يأخذ موقفاً قوياً حيث استقطبوا القبائل وقليل من العسكر، وكانت المناطق من بعد ريدة إلى صعدة معهم. فانشغلت الدولة حينها بالصراع مع مراكز القوى وتحسين الخدمات للمواطنين والسعي لتقريب خطوات الوحدة اليمنية وترسيخ سلطة الدولة، وصولاً لإجراء انتخابات برلمانية، لكن أيادي الغدر والخيانة حرمت اليمن من ابن بار بها ومن خطوات صادقة لانتخابات برلمانية حقيقية.
 
ومختصر القول إن تقييم المؤسسات بشكل ظاهري بعيداً عن دورها وأثرها وتقييم المراحل بعيداً عن ظروفها وصراعاتها والتحولات فيها والظروف المكانية والزمانية لها فيه تعسف للحقيقة وتشويه للتاريخ وتلميع لفترات سابقة ولاحقة للحمدي يتكرر من قبل كثيرين يرون أن فترة الرئيس الحمدي تمثل لهم أزمة أخلاقية وأن ظهورهم لن يكون إلا بتشويه هذه التجربة القصيرة زمنياً والكبيرة بإنجازاتها وتخليدها في الذاكرة الشعبية والوطنية.

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً