قبل قرابة ستة عشر عامًا، وفيما كنت على المكتب في الوظيفة العامة، أقومُ بتصفح صحيفة «الثورة» اليومية، قرأتُ خبرًا عن مهربين من دولة إفريقية مجاورة على زورق بحري كانوا يحملون معهم لاجئين هاربين من جحيم الحرب المشتعلة في هذه الدولة.
وفي عُرْضِ البحر قام المهربون بتهديد المسافرين الفارين من الحرب بالأسلحة النارية ليتركوا القارب، ويقفزوا إلى البحر؛ حتى يستولوا على كُلِّ مقتنياتهم وأمتعتهم.
امتثل الجميع للأوامر، وقاموا بالقفز للبحر؛ ليلاقوا مصيرهم بالموت غرقًا. وتساءلت حينها، ووجهت السؤال إلى بعض الزميلات ممن كان معي في المكتب عن: السبب الذي جعل كل هؤلاء الضحايا يستجيبون لتهديد هؤلاء المهربين؟ وما الذي حال دون أن يفكر بعضهم، أو حتى واحدٌ منهم بالرفض والممانعة أو المقاومة؟
لكنَّ الذي حصل أنْ لا أحدَ منهم أبدى مقاومةً تُذكر، أو قام بالعصيان ورَفْضِ امتثال الأمر المميت؟
ولماذا اختار الضحايا الموت غَرقًا على الموت قتلاً برصاص هؤلاء المجرمين؟
أتُراهم رأوا أنَّ البحرَ أكثر رحمةً بهم من هؤلاء الذين كانوا يتهددونهم؟
لم أجد حينها جوابًا شافيا يفسر حقيقة ما جرى، وزاد الأمر تعقيدًا قصةّ أبي عبيد الله معاوية بن عبد الله بن يسار الأشعري- وزير المهدي العباسي؛ حيث يذكر المؤرخون أنَّ الربيع بن يونس، وكان منافسًا له- ظلَّ يفتل له في الذروة والغارب حتى سعى به إلى المهدي؛ وصحح على ابنه الزندقة؛ فقتله المهدي.
لم ينتهِ الأمر عند هذا الحد؛ فقد بلغت القسوة والسادية بالمهدي أن يأمر وزيره بقتل ابنه فلذة كبده، ويقول له: قُمْ فتقرب إلى الله بدمه!
فقام الوزير، وهو يرتعد، وتعثر في مِشيَتهِ ووقع؛ فرق عَمُّ المهدي له، والتمس منه أنْ يُعفي الوزير من قتل ابنه؛ فأمر المهدي بعض من كان حاضرًا، فضُربتْ عنقه.
أمَّا أكثر المواقف التي تثير الحيرة والعجب هو: أنَّ الوزير معاوية بن يسار لم ينقطع عن خدمته للمهدي بعد قتله ولده، وظلَّ يصل إلى المهدي على رتبته رعايةً لِحُرمتهِ كما يقول المؤرخون!!
ويشير ابن طباطبا في(الفخري) إلى أنه استمر على حالهِ مِن الخدمة بعد قتل ولده، ثم قال المهدي بعد ذلك للربيع: إني استحيي من أبي عبيد الله بسبب قتل ولده؛ فاحجبه عني، فَحُجِبَ عنه. (العلماء والاستبداد، لكاتب المقال).
وفي حقيقة الأمر، فإن كثيرًا من القيم التربوية والدينية والسياسية والاجتماعية لعبت دورًا رئيسًا في تشويه الطبيعة الإنسانية وتدميرها، وهي سببٌ رئيس لما مُنِيَنا به من ضعف وعجز وهوان وذلة؛ وهي لا تزال حتى الآن تملي علينا شروط الاستسلام والانقياد لهذه القوى.
فإطاعة السلطة- أيِّ سُلطَة- ظلت هي الفضيلة المميزة التي تُمجَّدُ منذ زمنٍ طويل، كما يقول ولسن، ويتساءل: هل على الإنسان أن يطيع عندما تتعارض الأوامر مع الضمير؟!
ويذكر أنَّ أفلاطون في مسرحية «لانيتجون» عالجها كما عالجها كُلُّ الفلاسفة في جميع حقب التاريخ.
ويشير إلى أنَّ الفلاسفة يُحمِّلُون البنية الهشة للمجتمع هذه المسئولية؛ فهي تهدد بعدم الطاعة، وتحذر من الجنوح للعصيان؛ حتى لو كان العمل السلطوي (شريرًا)؛ فإنَّ من الأفضل تنفيذ الأوامر عما لو اقتلعت تركيبة السلطة.
ويقول أيضًا: "وينطلق هوبز أبعد من ذلك حينما يقول بأن الأمرَ المُنَفَّذ لا يعني مسئولية مُنفِّذِهِ؛ وإنما يعني فقط السلطة التي أعطته، بينما يطلب الإنسانيون سيادة الضمير الفردي في تلك الحالات، ويُلِّحون على أنَّ الأحكام المعنوية للشخص لا بُدَّ وأن تعلو السلطة عندما يكون الاثنان في حالة صراع.
وتعاليم ابن المقفع -أحد ضحايا الاستبداد الذي نظَّرَ له، تظهر بجلاء كيف يتم إخضاع المرء للقوة بكل تدميريتها وبشتى الطرق؛ حيث يقول: "لا تكوننَّ صحبتك للملوك إلا بعد رياضة منك لنفسك على طاعتهم في المكروه عندك، وموافقتهم فيما خالفك، وتقدير الأمور على أهوائهم دون هواك، وعلى أن لا تكتم سرك عنهم، ولا تستطلع على ما كتموك، وعلى الاجتهاد في رضاهم، والتلطف لحاجتهم، والتثبت لحجتهم، والتصديق لمقالتهم، والتزيين لرأيهم، وعلى قِلِّة الاستقباح لما فعلوا إذا أساءوا!، وكثرة النشر لمحاسنهم، وحسن الستر على مساوئهم، والمقاربة لمن قاربوا، وإن كانوا بعداء، والمباعدة لمن باعدوا، وإن كانوا أقرباء، والاهتمام بأمرهم وإن لم يهتموا به، والحفظ له وإن ضيعوه، والذكر له وإن نسوه، والتخفيف عنهم من مؤونتك، والاحتمال لهم كل مؤونة، والرضى منهم بالعفو، وقلة الرضى من نفسك بالمجهود». (الأدب الصغير والأدب الكبير، نشر مؤسسة سعيدان، ص 114-115).
ويقول الجاحظ: «إنَّ السلطان وخيلاءه وزهوه يحتمل فيه ما لا يجوز في غيره، ويُعذر فيه ما لا يعذر في سواه!» (رسالة المعاش والمعاد للجاحظ، رسائل الجاحظ، تحقيق وشرح عبد السلام محمد هارون،1/129).
ويذكر ولسن تجربةً قام بها ستنالي ميلجرام في «جامعة يال» باشتراك أكثر من ألف شخص. حيث يأتي الشخص إلى المعمل النفسي، ويؤمر بتنفيذ سلسلة من الأفعال التي تتعارض تدريجيًّا مع ضميره.
كان المطلب الرئيس، والغرض من هذه التجربة: إلى أي مدىً سيخضع المشارك لتعليمات القائم بالتجربة قبل أن يرفض تنفيذ الأفعال المطلوبة منه؟
وتجري التجربة بمجيء شخصين إلى المعمل النفسي؛ ليقوما بدارسة حول (الذاكرة والتعلم)، يُعَيَّن أحدهما كمدرس، والآخر كمتعلم، ويشرح القائمُ بالتجربة أنَّ الدراسة تدور حول تأثير «إعادة الحث السلبي»، على التعليم.
يؤخذ المُتَعَلِم إلى حُجْرة، ويجلس على كرسي، حيث يربط ذراعاه؛ ليمُنعَ من الحركة الزائدة، ويُوصَّل قطب كهربائي إلى رسْغِه، ثم يُطلب منه تعلُّم قائمةٍ من المترادفات للكلمة الواحدة.
عندما يخطئ المتعلم في الإجابة يستقبل حثًّا سلبيًّا. (= اصطلاح وغلاف لغوي متحضر يعني ببساطة بأنه سيستقبل صدمات كهربائية مؤلمة).
المركز الحقيقي للتجربة هو المدرس الذي يرى (المُتعلِّم) وقد أُوثِقَ في مكانه، ثُمَّ يؤخذ إلى حجرة التجربة الأساسية، ويُطلب من المدرس الجلوس أمام مُولِّد صدمة له خط أفقي بثلاثين درجة تتراوح من 15 فولتًا إلى 450 فولتًا بزيادة دورية قدرها 15 فولتًا.
وهناك أيضًا مؤشرات مكتوبة على لوحه تبدأ مِنْ (صدمة خفيفة)، حتى (خطر- صدمة كبيرة).
يُخْبَر المدرس بأنَّ عليهِ أنْ يقوم (بتوجيه) "اختيار التعلم" إلى الشخص في الحجرة الأخرى بقراءة الكلمة الأولى لكلِّ مجموعة من المترادفات، وعندما يجيب بشكلٍ صحيح بالكلمة المطلوبة، ينتقل (المدرس) إلى المجموعة التالية. وحين يجيب المتعلم إجابةً خاطئةً؛ يعطيه المدرس صدمةً كهربائية.
وعليه أنْ يبدأ بأقل معدل في المُولِّد (15 فولتًا)، إلى (45 فولتًا)، وهكذا.
المدرس متطوع (بريء) بصدق؛ حيث يأتي إلى المعمل ليشارك في التجربة، والمتعلم أو الضحية مُمثِّل جيد؛ حيث أنَّهُ في الحقيقة لا يستقبل أيَّةَ صدمة على الإطلاق.
الهدف من التجربة معرفة إلى أيِّ مدى يتقدم الشخص مِنْ وضعٍ محسوسٍ ومُقاس (حيث يؤمر ببثِّ ألم زائد ضد ضحية محتجزة)؛ فعند أيِّ نقطة سيرفض المتطوع أنْ يُطيع القائم بالتجربة؟
يبدأ الصراع عندما يُعبِّر مُستَقبِل الصدماتِ عن عدمِ راحته. تبدأ ردود الفعل الاحتجاجي عند صدمة 75 فولتًا؛ حيث يتذمر (المتعلم)، وعند 120 فولتًا يشكو بصوت، وعند 150 فولتًا يطلب أنْ يتركَ التجربة، ويستمر احتجاجه في التصاعد حينما تتزايد جرعات الصدمات. وعند 285 فولتًا يبدأ بالصراخ والاحتضار بشكل انفعالي عنيف ومُوجِع.
إنَّ الوضع بالنسبة للمتطوع (المدرس) ليس لعبةً. فالصراع الداخلي حاد وواضح. فمن جانب تجبره المعاناة القاسية (للمتعلم) أنْ ينسحب أو يتوقف، ومِنْ جانبٍ آخر، فإنَّ القائم بالتجربة؛ وهو: ممثل السلطة الشرعية؛ والتي يشعر نحوها المتطوع ببعض الالتزام؛ وهي التي تأمره بالاستمرار في أيِّ لحظة يتردد فيها (المدرس- موضوع الاختبار) ببثِّ الصدمة الكهربائية، يقوم هذا القائم بالتجربة بتوجيهه بأربع جمل:
- استمرْ مِنْ فضلك.
- التجربة تتطلب أنْ تستمر.
- إنَّهُ من الضرورة المطلقة أن تواصل.
- أنتَ لا تملك الاختيار؛ عليكَ أنْ تواصل.
ولكي يتملص من الوضع، فإنَّ المتطوع يجب أن يقوم بتصادمٍ واضحٍ مع السُّلطة.
الهدف من هذا الفحص هو أن نجد الإجابة على هذا السؤال: متى وكيف يمكن للناس أن يتحدوا السلطة في مواجهة أمرٍ مستبدٍ وقاهر؟
ويتابع ولسن الحديث: "هناك في الحقيقة فروق عديدة بين تنفيذ أوامر الضباط مثلاً في أوقات الحرب، وتنفيذ أوامر (مُجَرِّب) في معمل، لكن جوهر بعض العلاقات يبقى قائمًا؛ لأنه يمكن أن يسأل أحدُنا بطريقة عامة:
كيف يتصرف الإنسان عندما تأمره سلطة شرعية ليعمل ضد شخص ثالث؟!
ونحن ربما نتوقع بأنَّ قوة المُجَرِّب أقلُّ بشكلٍ كبيرٍ عن تلك التي للسلطة العامة؛ حيث لا يملك أيَّ قوة لتنفيذ أوامره قسريًّا، ونادرًا ما تؤدي المشاركة في تجربة نفسانية إلى الإحساس بالاستعجالية والخصوصية التي تفرضها الحرب. ورغمًا عن تلك المقيدات، فإنَّهُ مِنْ المفيد بدء الملاحظات الدقيقة للطاعة في هذ الوضع المعتدل، على أمل أنه سوف يثير الوعي، ويحثُّ على خلق معارضة دائمة يمكن أن تطُبَّق في ظروف عديدة.
رد الفعل الأولي بالنسبة للتجربة يمكن أن يكون: لماذا لا يرفض إنسانٌ عاقل أن يُعْطِي الصدماتِ الأولى كُليَّا؟!
لماذا لا ينهض ويخرج من المختبر؟!
في الحقيقة لم يفعل أحدٌ هذا.
جاء المتطوع إلى المعمل كمساعد للقائم بالتجربة، وكان يرغب لحدٍّ ما أنْ يبدأَ بالعمل، وليس هناك شيءٌ غيرَ عادي؛ خاصة ًوأنَّ الشخص الذي يستقبل الصدمات يبدو في البداية متعاونًا ومُتفهِّمًا لحدٍّ ما.
المدهش هو: إلى أي مدى استمر الأشخاص العاديون في الخضوع لتعليمات المُجَرِّب؟!
كانت نتائج التجربة عجيبة ومُفزِعَة في نفس الوقت. وبرغم أنَّ كثيرًا من المتطوعين خبروا التوتر؛ وعديد منهم احتجُّوا لدى المُجَرِّب؛ فإن نسبةً جوهريةً منهم استمرت حتى آخر صدمة في المولد الكهربائي!
الكثير منهم أطاعوا المجرب أيًّا كانت حميتهم، وأيًّا كانت إلحاحات وتوسلات الضحية، وأيًّا كانت الصدمات مؤلمة، وأيًّا كان المتعلم يصرخ أو يتوسل أن يتركوه.
أُعِيدتْ التجربة في جامعات مختلفة، ولوحظ نفس الأمر، ولم تكن النتيجة إلا الرغبة القصوى لمنفذي الأوامر بالاستمرار لأية مسافة قد تأمر بها السلطة.
تلك النتيجة هي الاكتشاف الرئيس للدراسة.
يقول ولسن: تفترض إحدى الدراسات الشائعة أنَّ هؤلاء الذين صَدمُوا الضحيةَ إلى أقصى حدٍّ هم أشباح متوحشة، وهم حاشية المجتمع السادية. لكننا لو اعتبرنا أنَّ ثلثي المشاركين سقط[وا] تحت بند (المطيعين)، ويمثلون مجرد أفرادٍ عاديين سُحِبُوا مِنْ الأعمال، والإدارات، والوظائف، فسوف تبدو الفرضية (الاتهام) مهزوزة.
ثم يعقب ذلك بقوله: "يبرز إلى ذاكرتنا ما قيل حول «إيخمان» في كتاب (هانا أرندت)؛ حيث أنه لم يكن إلا مجرد موظف عادي يجلس خلف طاولته، ويؤدي وظيفته رغم أنَّ الأفعال التي قام بها وُصِفتْ بالصنائع الوحشية التي تتطلب شخصية سادِّية قاسية؛ وهي شر متجسد، لكن بعد تجربتنا، فإني أستخلص نفسَ مفهوم «أرندت» حول مضمون «تفاهة الشر»، والذي يقارب الحقيقة التي يمكن تخيلها. فالشخص العادي الذي صدمَ الضحية كهربائيًا قد فعل هذا دون أي معنى للقسر أو الإجبار، لكنه تحت مفهوم واجباته، وليس تحت ميول عدوانية خاصة.
هذا ربما الدرس الأساس للتجربة. إنَّ الأشخاص العاديين والذين يؤدون وظائفهم ببساطة ودون أي عدوانية خاصة من جانبهم، يمكن أن يصحبوا عناصر فعالة في عملية تدميرية مروعة.
علاوةً على ذلك؛ فإنَّهُ حينما تتضح التأثيرات المدمرة لأعمالهم بجلاء، ويُسأَلون أن ينفذوا أفعالاً لا تتناسب مع المستويات الرئيسة للمعنويات؛ فإن عددًا قليلاً من الناس هم الذين يملكون المنابع لمقاومة السلطة؛ نظرًا لتدخل عوامل عديدة كثيرة لتثبيط العصيان أو الرفض للسلطة في اللعبة، وتجمد الشخص في مكانهِ بنجاح. (سيكولوجية العنف، ترجمة مالي الأيوبي، ص 17-21).