صنعاء 19C امطار خفيفة

ثروة الجنوب، مأرب، حضرموت! أفكار خبيثة لتفكيك الدولة

قبل عدة سنوات قال لي شاب من محافظة الجوف، من المتحمسين لمخرجات مؤتمر موفنبيك الهدامة، إن أبناء "إقليم سبأ" -الذي اخترعه الخبثاء لتقسيم اليمن- لن يسمحوا بعد الآن بأن يستحوذ الآخرون على ثروات إقليمهم. رددت عليه بالقول: ما تسميه أنت ثروات إقليم سبأ، سيدعي أبناء محافظة مأرب بأن لا شأن لمحافظة الجوف أو البيضاء بها، وأنها ملك حصري لأبناء محافظتهم. وقلت له بنفس الحجة: سيقول أبناء مديرية مأرب، والتي تقع فيها آبار النفط والغاز، بأن النفط والغاز هو حق حصري لهم، وليس لبقية مديريات مأرب الأخرى أي حق.

ولن ينتهي الأمر هنا، فقبيلة عبيدة التي يقع النفط والغاز في أراضيها، ستدعي بأنه ملكها وليس لبقية القبائل في مديرية مأرب أي حق فيه. وبنفس المنطق والحجة سيدعي أبناء قبيلة آل جلال، التي تقع آبار النفط والغاز في "حماها"، بأنه ملكهم، وليس لفروع قبائل عبيدة الأخرى، بما فيها الفرع الذي ينتمي له محافظ مأرب سلطان العرادة، أي حق فيه.

ما ذكرته ليس كلامًا افتراضيًا للإثارة والتشويق، ولكنه أصبح ممارسة فعلية إلى حد كبير، بعد أن هيمن الفكر الانعزالي الهدام على اليمن. ففي عام 2023 تزعمت قبيلة آل جلال الاحتجاجات المعارضة للرفع الجزئي لأسعار البنزين المدعوم، كون ذلك الرفع سيفقدهم جزءًا من العوائد التي يجنونها من جراء بيعهم للبنزين المدعوم بالسعر الفعلي، والذي تم منحهم مخصصات ثابتة منه. وكانت الحجة التي انطلقوا منها مفادها أن النفط هو ملكهم، والمصفاة تقع في أرضهم، ومن ثم ليس من حق الحكومة أو محافظ مأرب تحديد الأسعار دون موافقتهم.

روج الانفصاليون، الذين يتزعمهم سكان منطقة المثلث الخالية من الثروات الطبيعية، لمصطلح "ثروات الجنوب" والمقصود به النفط الذي ينتج في محافظتي حضرموت وشبوة، بطاقة لا تزيد عن 60 ألف برميل يوميًا. في المقابل ادعى الكثير من أبناء محافظتي حضرموت وشبوة، بأن تلك الثروة تخصهم وحدهم، وليس لمحافظات الجنوب الأخرى أي حق فيه.

وكما نلاحظ، فإن الفكر الانعزالي، الخاص بملكية الثروات الطبيعية، سرعان ما يولد فكرًا انعزاليًا أصغر منه، فما تسمى ثروات الجنوب أو الشمال، تتحول شيئًا فشيئًا، إلى ثروات خاصة بقرية صغيرة أو فرع من قبيلة يقع حقل النفط أو الغاز في نطاقها الجغرافي. فالمنطق الذي يقوم عليه هذا الادعاء يستند إلى معيار القرب الجغرافي، وهذا المعيار مطاط بحسب الطرف الذي يستخدمه ويخطط لاحتكار ملكيته، فبالنسبة لأبناء منطقة المثلث فإن ثروات حضرموت التي تبعد عنهم 800 كم، هي ثروات خاصة بهم؛ فيما قبيلة آل جلال التي تقع آبار النفط على مسافة مئات الأمتار من منازلهم، هي ثروات خاصة بهم، وهكذا.

وفق دستور الجمهورية اليمنية وقوانينها؛ فإن كل الموارد الطبيعية هي ثروة سيادية لكل أبناء الجمهورية اليمنية، وهذا الأمر يحقق العدالة والمساواة، ويجنب البلاد مخاطر الصراع والفوضى وسوء الاستغلال للموارد الطبيعية. فالموارد الطبيعية التي توجد في منطقة ما، قد أوجدتها صدفة جيولوجية أو جغرافية، وليس لأبنائها أي دور في وجودها، فالنفط والغاز في مأرب لم يشكله أبناء مأرب وآل جلال، حتى يدعوا بأنه ملكهم، مثله مثل البحر، الذي لم يصنعه أبناء تهامة أو حضرموت أو المهرة، ليقولوا بأن الموانئ ملكهم، ومن ثم يجب أن تكون عوائدها لهم.

إلى جانب ذلك، تخلق هذه الفكرة نزاعات لا تنتهي حول هذه الملكية بين المدعين المحليين في ما بينهم البين، وفي ما بينهم وبين الحكومة المركزية. وهذه النزاعات تعطل عمل المشاريع القائمة، كما هو حاصل اليوم في حضرموت وشبوة، وتمنع الاستثمار في مشاريع جديدة. وهناك مئات القصص التي تحكي عن فشل مشاريع استغلال الثروات الطبيعية في اليمن، نتيجة ضعف الحكومة المركزية، وادعاء سكان المناطق التي توجد بها هذه الموارد بالحق في ملكيتها. والنتيجة العامة حرمان الدولة من عوائد الاستثمار، وحرمان سكان المناطق التي توجد بها من العوائد المباشرة وغير المباشرة التي كانوا سيجنونها.

لو أن الفكر الانعزالي السائد في اليمن حاليًا، ساد في الدول المجاورة لليمن، لكان من المستحيل أن يُستخرج النفط أو الغاز، أو أن تقام مشاريع استراتيجية ضخمة فيها. كما أن هذه الدول لو قادها حظها العاثر، لتُقيم مؤتمر حوار مثل مؤتمر موفنبيك، لتوقفت معظم مشاريعها الحيوية، وأصبحت في فقر وفوضى مثل اليمن. ولكن، كان من حظ هذه الدول أن وجدت فيها حكومات مركزية صارمة، لم تسمح لأية منطقة أو قبيلة، بأن تمنع استخراج النفط والغاز في أراضيها، تحت حجة أنه يخصها، وكان السيف البتار هو الوسيلة التي تعاملت بها هذه الحكومة مع كل من حاول عرقلة عمليات الاستخراج، أو ابتزاز الحكومة أو شركات الاستخراج. وبهذه الوسيلة نجحت هذه الدول في أن تصبح من أكبر منتجي النفط والغاز في العالم.

وهذه الوسيلة كانت ومازالت هي الوحيدة التي تنفع في مجتمعات لا تعرف معنى مفهوم الدولة، ومازالت تعيش ضمن فكرة القبيلة وحماها من الكلأ والمرعى. وفي اليمن لن يكون هناك استثمارات استراتيجية للموارد الطبيعية وغير الطبيعية مثل، السياحة والخدمات، إلا بحكومة مركزية صارمة تزجر بالقوة كل من ينافسها في ملكية الثروات الطبيعية.

قبل هيمنة الفكر الانعزالي الهدام، كان سكان عدن ينعمون بكهرباء يأتي وقودها في مجمله من نفط مأرب وغازها، ولم يكن عليهم حينها أن يشكروا أبناء مأرب ومحافظها على ذلك "العطاء"، لأنهم كانوا يعتبرونه حقًا من حقوقهم، وليس منة من أبناء مأرب. لكن، حين هيمن الفكر الانعزالي، تحت مسمى ثروة الجنوب ومأرب وحضرموت وشبوة وغيرها، عانى سكان عدن من انقطاع الكهرباء لفترات طويلة بسبب شُح الوقود، وحين تصل بعض شحنات الوقود من مأرب لإسعافهم لأيام قليلة، يُطالبون بأن يشكروا أبناء مأرب ومحافظها على تفضلهم بإرسال تلك الشحنات.

إلى حين عودة الدولة المركزية القوية والصارمة، ستبقى موارد اليمن الشحيحة عرضة للنهب من قبل حفنة صغيرة من تجار الحروب والفوضى، والذين يتقاسمونها مع لصوص محليين يدعون بأنهم يمثلون مصالح أبناء المناطق التي شاءت الصدفة الجيولوجية، أن توجد في مناطقهم. ولن تقوم لليمن قائمة ما لم يتم كنس الفكر الانعزالي الذي كرس التفتيت والتجزئة.

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً