يرى النائب عبدالله العديني الديمقراطية عملاً جاهلياً، لكنه يأتي عبرها محمولاً إلى مجلس النواب.
الرؤية نفسها تظهر ضمن زوايا معكوسة لدى بعض المثقفين اليمنيين الذين يرون يوسف الشحاري شاعراً وأديباً رائعاً، ولا يستطيعون رؤيته كرجل دولة كان على شرفة هيئة رئاسة السلطة التشريعية يدير عمليات التشريع لثلاثة عقود.
كان يوسف الشحاري وكيلاً للمجالس التشريعية والرقابية عبر تاريخها: الشورى في عصر الإرياني، والشعب التأسيسي في زمني الغشمي وصالح، ثم الشورى، ثم عضواً في مجلس النواب لاحقاً في زمن الوحدة.
لقد كان يحضر في سنواته النيابية الأخيرة كرمز ومرجعية آتٍ من تاريخ بدايات هذه المؤسسة.
كان زيد مطيع دماج روائياً وشاعراً ومشرعاً على رأس لجنة الثقافة والإعلام في مجلس الشعب التأسيسي، الذي كان فيه أيضاً: عبدالعزيز المقالح، وصالح الدحان، وإسماعيل الوزير، وأحمد منصور أبو أصبع، وعبدالواحد الخرباش.
ناقش الجميع ومثلهم المئات من القضاة والشيوخ والشعراء ورجال الأعمال وضباط الجيش، وصاغوا وأقروا مئات التشريعات والقوانين الصادرة عبر نصف قرن.
وكان يوسف الشحاري ومحمد الرباعي وسعيد الحكيمي أكثر ثلاثة ترأسوا الوفود البرلمانية الوطنية إلى مختلف عواصم العالم.
مطلع السبعينات حصل الشحاري والرباعي على أغلبية أصوات أعضاء مجلس الشورى كنائبين لرئيس المجلس عبدالله بن حسين الأحمر، الذي تفوق عليهما بفارق ضئيل.
يومها كانت السلطة التشريعية مكونة من 159 عضواً موزعين على 14 لجنة، وقادمين من 159 دائرة انتخابية.
(في مجلس 80% من قوامه يتم انتخابهم كممثلين للنواحي والعزل بالاختيار المتدرج عبر ثلاث مراحل: تبدأ بالقرية ثم العزلة ثم الناحية، التي يجتمع فيها مندوبو العزل لاختيار من يمثلهم في مجلس الشورى).
لماذا نستهين بتاريخ الأمة والدولة اليمنية وننظر إليه كريبة؟
هذه الاستهانة بمؤسسات الدولة وسلطاتها المركزية هي التي نفرت من الانتخابات وأدت إلى واقع الدم والشتات الذي نعيشه اليوم!
سارت الأمور هكذا: إجراءات بسيطة يشوبها الكثير من القصور، لكنها من حيث الأهمية: نقلة جبارة باتجاه التطور الانتخابي بالنظر إلى زمنها وشخوصها والظروف المحيطة إقليمياً ودولياً.
وعلى هذا النحو انتقلت الإجراءات من التعيين الكلي والاختياري بقرار رئيس المجلس الجمهوري إلى الاختيار الشعبي ومشاركة المواطنين لمن يمثلهم لأول مرة.
كان لرئيس المجلس الجمهوري حق اختيار 20% من الشخصيات المكملة لقوام المجلس.
وإذا كانت هذه الإجراءات قد شابها كثير من العيوب والتشوه، وكان المجلس الوطني ثم الشورى قد هيمنت عليه مراكز القوة والنفوذ المشائخي، فإن المطلوب من قادة الوضع الجديد بعد 13 يونيو التصحيحية: اختيار وتعيين، ومدّ المؤسسة بأدمغة جديدة لتصبح أفضل، لأن الأصل وفقاً لمنطق دولة في طور التأسيس أن يتم إمداد سلطتها التشريعية بعناصر الحياة، لا إهالة التراب عليها.
هذا سياق موضوعي، ونحن هنا بصدد كتابة تاريخ تطور الحياة البرلمانية في اليمن ضمن عناصرها البنيوية وظروف نشأتها وبداياتها.
وفقاً لتقاليد الدول: قدمت الحكومات الخمس موازناتها السنوية إلى المؤسسة التشريعية والرقابية (مجلس الشورى) لمناقشتها وإقرارها، وأصدرت بذلك كل مرة قانوناً طوال فترة الرئيس الإرياني.
السؤال لاحقاً: طوال ثلاث سنوات، إلى من كانت تقدم الحكومة اليمنية التي تولت إدارة شؤون البلاد موازناتها وحساباتها الختامية (1975 ـ 1978)؟
هذا استفسار منهجي!
وهل نحن إذن أمام مفارقة مثيرة أم بصدد قراءة مرحلة من مراحل الدولة، إحداها أقرب لروح وإجراءات وتقاليد الدولة الحديثة؟
وضعت الجمهورية اليمنية أول دستور لها بعد الثورة مباشرة في 17 أبريل عام 1963، متضمناً نصاً واضحاً يؤكد على مبدأ حكم الشعب نفسه بنفسه واعتباره مصدر جميع سلطات الدولة (التنفيذية ـ التشريعية ـ القضائية).
لم يتمكن قادة الثورة ونخبتها بسبب ظروف الحرب من إنشاء مجلس الشورى. وفي 27 أبريل (نفسه) 1964 تم إصدار الدستور الدائم الأول، معززاً لما ورد في الدستور السابق فيما يتعلق بمبدأ حكم الشعب نفسه بنفسه، ومؤكداً على: "تجسيد مبدأ الشورى والديمقراطية والمساءلة الشعبية في تكوين سلطات الدولة".
[عندما يتكرر أبريل دائماً إزاء هذه المادة، وعندما تم اختياره شهر الديمقراطية والانتخابات النيابية في اليمن، هل هي صدفة؟].
وينص الفصل الرابع منه على إنشاء مجلس الشورى "يتم اختياره من رجال اليمن وعقالهم".
هذا المبدأ الأصيل الراسخ ضمن ثوابت الجمهورية ومبادئها كان يتم تعزيزه دائماً بإضافات أكثر دقة: عندما صدر الدستور المؤقت الثاني الصادر في 8 مايو 1965، والدستور المؤقت الثالث الصادر في 25 نوفمبر 1967.
إذن، لقد كانت السلطة التشريعية والرقابية في البلاد حاضرة بقوة، عميقاً في وعي الجمهورية العربية اليمنية وأذهان رجالها العظام.
لقد كانت هذه الأسس الدستورية إحدى الثوابت الراسخة التي حضّرت مبكراً لفكرة إنشاء المجلس الوطني كسلطة تشريعية ورقابية للدولة ضمن خط مستقيم يبدأ من 26 سبتمبر ولا يجوز له أن ينتهي أو يميل (الوطني ثم الشورى ثم الشعب ثم الشورى ثم النواب).
اليمن دولة في طور التأسيس، وإذا كان هناك من حاول الاستحواذ على هذه المؤسسة وقراراتها في مرحلة من المراحل، فإنه سلوك مدان وطنياً وأخلاقياً، ولا يجوز أن نوجه الإدانة إلى المؤسسة نفسها كفكرة وكوظيفة معاً.
لقد عمل على وضع هذه الأسس التشريعية العظيمة رجال عظام وقضاة مخلصون، وكان الرئيس القاضي عبدالرحمن الإرياني في قلب هذه النواة التأسيسية يصارع الأمواج: إذ يؤسس لمجالس تشريعية عبر انتقالات واعية للمراحل والظروف تؤدي في النهاية إلى نواب وممثلين عن الأمة يتم اختيارهم مباشرة من قبل المواطنين.
إنها أفكار متقدمة زمنياً عن أفكار وتصورات كثير من القوى الثورية الوطنية أيضاً، التي كانت رؤيتها تتبلور حول فكرة الثورة الدائمة، وكانت تلك المشاعر المثالية محط استغراب القاضي الإرياني وسياسته الواقعية.
وإذا كان القضاة في كل الدنيا قد اضطلعوا بأدوار ومسؤوليات جوهرية، ولعبوا أدواراً عظيمة في تأسيس وإنشاء وتقديم الأفكار المؤسسة لكياناتهم الوطنية، مثل مونتسكيو في فرنسا وجيفرسون في الولايات المتحدة، الذي كتب الدستور الأمريكي، فإن لدينا ما نفاخر به في هذا المضمار من الرؤساء والقضاة والضباط والزعماء في كل المراحل.
**
هذه حلقات من كتاب شبه مكتمل: "الحياة البرلمانية في اليمن" من 1968 وحتى 2011