كانت الصحافة الحرة إحدى أبرز الملامح الفريدة التي زيّنت الثلث الأخير من زمن الرئيس علي عبدالله صالح. وبصرف النظر عن الموضوعات والتناولات اليومية لحركة السياسة وتفاعلاتها، فقد كان هناك دولة ومجتمع. وكانت الصحافة في قلب كل هذا الصخب: سلطة رابعة تخشاها جميع السلطات.
ومن موقعي كـ"صحفي" تنقل خلال عشر سنوات بين سلطتين بشكل حصري: القضاء والبرلمان، فقد أنجزت أمورًا عديدة وعقب كل إنجاز كنت أشعر بما يمكن تسميته: "سلطة اسمها اللذة"!
في اتجاه القضاء؛ اشتغلت على مواضيع استقصائية بحتة عبر نشر القصص الخبرية المكثفة أو الملفات الحقوقية الموسعة بطابعها الإنساني ضمن سياق قانوني مدعماً بالجداول والرسوم وبالصور والبيانات والوثائق، وكانت النتائج مبهرة للغاية.
وفي البرلمان حاولت مرارًا أن أهرب من السياسة لأكتب مثلاً قصة أقدم موظفي مجلس النواب الحاج المرحوم محسن العذري الذي عاصر جميع المراحل النيابية في اليمن (من عام 1969 إلى عام 2008).
كان الحاج محسن العذري إنسانًا بسيطًا يعمل فراشًا لقاعة مجلس النواب منذ عام 1969، وكان يسقي النواب ويمدهم بالماء منذ ذلك التاريخ (في الغالب: جيل الأجداد والآباء وما هؤلاء إلا الجيل الثالث: الأحفاد إذا ما اعتبرنا الوظيفية البرلمانية في اليمن اعتبارية ذات طابع وراثي أحيانًا ضمن اعتياد مشابه في كثير من مؤسسات العالم العريقة: القضاة في فرنسا أو في مصر مثلاً).
لقد انقرضت أجيال من النواب أو انصرفوا، وكان الحاج محسن العذري شاهدًا على كل تلك المراحل والوجوه المتعاقبة. كان بسيطًا جدًا يعتمر أحيانًا الكوفية الحجازية المفضلة لدى كبار السن، ولديه حكايات تخصه مع كثير من رجال اليمن. وبكلام زهيد يحكي القصة عن هذا أو ذاك مثل أي يمني أصيل لا ينسى المعروف.
لم يكن النواب يكترثون له للأمانة إلا القلة، وكان ياسر العواضي أحد هؤلاء الفرسان النادرين. ليس لدى الحاج محسن العذري كلامًا كثيرًا وهو ساكت إلا إذا ما سألته: هل تعرف الشيخ أحمد علي المطري مثلاً أو هل تعرف الشيخ محمد صبار الجماعي، فهنا سيحكي: الله.. أعرف الشيبة صبّار الجماعي بنفسه وعاد محمد صبّار سواق لأبوه. (لقد ماتوا جميعًا: الشيخ صبار الجماعي عضو المجلس الوطني والشورى ومجلس الشعب التأسيسي وولده الذي أعقبه محمد صبار الجماعي ذو الصوت الجهور والقامة الفارعة الذي كان يحضر بكامل مهابته وبرأس مقبوع بأطول كوافي الخيزران منذ أواخر السبعينات خلفًا لوالده حيث كانا (الأب أولاً المتوفي أواخر السبعينات ثم الابن لاحقًا) ممثلين لدائرة حرض من محافظة حجة وجماعة الشام. توفى محمد صبار في 2008 عن عمر يزيد عن الثمانين عامًا).
وعندما سألته من أفضل نائب مر في حياتك من بعد الثورة إلى اليوم أجاب بعينين يشرغهما الدمع: ابن العواضي (يقصد الشيخ ياسر العواضي). وأضاف سريعًا: "... والشيخ عبدالله كان يحط يده في جيبي بظرف فجأة أو يناولني ورقة ألقى فيها شيء يطيّب النفس"!
سألته عن شيخ شهير أردت أن أقارنه بهؤلاء وكان رده سريعًا: "شر منظّر أعوذ بالله منه"!
لم يكن هذا الموظف الأصيل يستجدي أحدًا على الإطلاق أو يطلب إعانة، لكن كان يبكي إذا مات أحد النواب.. وكان يعتبر الصرع الأخير من النواب: "مثل عيالي"!
تجاوز الثمانين من عمره وكانت راحته بالحضور إلى القاعة، وعندما كتبت عنه صفحة كاملة وأرفقتها بصوره ثم قدمتها إليه ورآها: بكى. ولم يصدق.
لا أنسى تلك الدموع الغالية للعم الحبيب المرحوم محسن العذري. وكان كلما يلقاني يفرح ويقول: ما أحد قدرني مثلك!
كان النواب يتابعون ما نكتبه باهتمام وشغف. وعندما رأى الحاج محسن النواب وهم يتصفحون صورته ويقرأون حكاياته كان هذا الرجل الثمانيني يخشع ويتلعثم بالبكاء. كان يفرح من أعماقه ويترحم على الأولين: كان في ناس كان في كمن جبل.. ونحن الصحفيون من ينسى قوارير الماء التي كان العم محسن يتجشم عناء إيصالها إلينا عن طيب نفس إلى شرفة الصحافة صعودًا إلى الدور الثاني. أما أنا فبعد أن كتبت عنه فكان يعطيني حبتين وأنا لا أريد سوى قارورة واحدة.
لقد تحسنت أحوال الحاج محسن بعد تلك القصص وأصبح محل تقدير الكثير من النواب بعد ذلك التاريخ إلا أن الأجل كان أقرب ففي نفس العام مات. رحمة الله عليه.
(سوف ننتظم بسرد الكثير من القصص عن الأشخاص والمشاهير الذين صادفتهم أو عملت معهم خلال رحلة الصحافة المؤثرة متنقلاً بين السجن والنيابات ودهاليز مجلس النواب)