الإرهاب يأتي من الداخل:" صواعق وملاعق دماج"
**
"لا أخطط أن أدخل الجنة في زورق، لذلك لا يدهشني جدًا "نهر الكوثر" وبضع حَوارِ عين يغسلن يدي من الأخطاء، لا أطمع سوى أن أعيد "الملاكين" إلى بيتهما، وأمشي بكتفين خفيفتين، وقلب طليق، لا أكثر"..
(صورة جماعية لي وحدي، إبراهيم جابر إبراهيم)
**
في فبراير 2014، زرت معهد دماج بعد تعرضه للتدمير إثر الحرب بين السلفيين والحوثيين، وما إن وطأت قدماي، حتى رأيت الآثار البشعة للقصف مرتسمة جلية على ما تبقى من الوجوه والنفوس والبيوت والأسر والأطفال، وجدران المعهد التي نخلتها قذائف الرصاص والمدافع، مثلما نخلت حروب مقلب الهويات الإيمانية والعرقية العدنانية والقحطانية، النفوس والرؤوس والحياة برمتها، فنحن اليوم مثلما الأمس نتجرع وباءها المزمن، إنها هويات المحارق الظاهرة والمستترة، لحكم المفاخرة بالأصول الكاذبة والفارغة معًا: "العرق دساس"، و"اليهودي يهودي ولو أسلم"، و"الإيمان يمان"، و"الأمة القرآنية"، و"إن غابت الأصول دلتك الأفاعيل"، و"عيال الخُمس الناقصين"، و"السنة المُطهرة"، و"الشيعة الأطهر"... الخ من الأمثال والحكم العنصرية والفاشية لما قبل الآدمية وحقوق الإنسان الطبيعية والمدنية.
وكما هو معروف، فأهل الهويات الدينية يمتلكون: "جنودًا من عسل"، و"سيوف الحق"، و"سيف الله المسلول"، و... الخ من ميسم الهويات المتقاتلة بالله والقبيلة والشيخ والبداوة الطاعنة في قلب الحياة العربية واليمنية خصوصًا.. وليس مبالغة أنها الأشد فتكًا للمجتمع اليمني عبر تاريخه الدامي والمغلق بأصفاد وكهنوت المقدس، توجت بالغزو الحوثي 21 سبتمبر 2014.
نعم، بهذه السيوف المسلولة -المعلولة، نُكبت دماج أرضًا وإنسانًا، أكثر من مرة، وليس بآخر أحداث 2013 الدامية، إذ كانت عرضة للحروب والاقتلاع والتهجير الصارخين، وبنفس سيف الهوية العقائدية السلفية الوهابية التي كانت مدماك البنية التأسيسية الدماجية في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، بدعم الشقيقة السعودية، ثم بسيف الهوية "الإيمانية الحوثية" في الألفية الثالثة، بدعم إيران، وهما لا يختلفان عن بعضهما إلا في القشور، فكل الهويات القداسية والتعتل بـ"إن الله معنا"، و"نحن أهل الحل والعقد"، و"الأمة الناجية"، و"دولة الشريعة"، فكلها تعبّ من نفس بركة التقاتل بالماضي الدموي النطفوي والدعوي... الخ، إنه "البلاء الدهري"، كما وصفه الكاتب ولي نصر، في كتابه الهام "صحوة الشيعة".
**
في تلك الزيارة من البقعة الدماجية المنخورة بإنسانها ومعمارها، لم يبقَ منها غير صور أشباح وظلال لعيون أطفال ونساء مذعورة تتحرك في فناءات البيوت الحزينة، وخلف النوافذ وأسوار اللبن المثقوبة بالرصاص والقذائف، وحقول العنب والبرتقال و"الفرسك" اليتيمة، ولوحات بائسة: "مركز دماج الخير"، "مغسلة الجنائز"، "ادعم جامع دار الحديث"، "باخريصة للاتصالات"، "عدن لمواد البناء والكهرباء والأدوات المنزلية والحلاقة"... الخ. لا أبالغ إن قلت إن تلك الصور الدامية مازالت تطبعني وتسكنني حتى اليوم، خصوصًا وجوه النساء والأطفال الأليمة.
**
وأنا أجوب المعهد وحواليه، نادتني بعض النسوة المُلثمات من داخل أسوار أحواشهن البائسة، وبصوت خافت، مؤشرات لي أن أدخل إليهن، شرحن لي بخوف ما الذي جرى لهن، وكيف قُتل أزواجهن وإخوتهن وأبناؤهن، ولم يتبقَّ في دار الحديث -دماج، سوانا نحن النساء والأطفال. أولئك الأطفال كنتُ رأيتهم بين الركام يلعبون، وأشاروا لي لا تصوريناش.. ما أجملهم.
أخرى تواصل الحديث: إيه والله، ما عاد بقى إلا نحنا وبعض المجانين، وأشارت قائلة،: سترينهم في الأرجاء من "دار الحديث". بقية النسوة كن يهززن رؤوسهن بانكسار الجريح والمكلوم، آهات جروحهن الغائرة تنفث من خلف خيوط اللثام.
**
كنتُ تركت سرب مجموعتنا (فبراير 2014) التي تزور صعدة لتطلع على أوضاعها، وأمام ما هالني من دمار، استرقت نفسي لأصور ما قد لا أراه في الكلام الرسمي المحلى بالعسل دائمًا. هناك وحيث الزوايا والخبايا وآثار الدمار في كل شبر، عثرتُ بين الركام على الأحذية اليتيمة والعارية والمهملة التي قُتل وشُرد ضحاياها، لتحكي كل فردة منها ألف حكاية وحكاية، لم تشر لها البروباجندا الإعلامية، لكن تلك الأحذية كانت تختزن الحكايات المخفية والخائفة عمن هُجّروا ومن بقي. التقطتُ صور الصحون المشروخة، أواني الطبخ "المدر"، بقايا طعام، مخدات، ملابس عسكرية ومدنية متناثرة، أبواب المحلات المنخورة وعليها أرقام تليفون المحل، قطعة جبن، قمح مجروش "هريش"، محل الحلاقة الذي لم يتبقَّ منه سوى الكرسي وبقايا شعر، براميل المياه، أقبية وأخاديد تحت الأرض، وبضع زهرات بيضاء تلوح في صور شبابيك البيوت المنخولة بالكراهية، والرصاص والمدافع، بعض الحطب المتكوم الذي لم يتسنَّ للنساء أن يأخذنه، رجل ملتحٍ يقلم أشجار العنب اليابسة، وآخر يلوح بابتسامة ساحرة لا أنساها حتى اليوم (ربما كان هو ذلك الذي حدثتني النسوة أنه "جواد الله")، شخابيط على الجدران، ولا أنسى ما سُطر على أحد الجدران: "يوم الحزن"، وكان يمر من أمامه طفل يبتسم للكاميرا وهو يحمل أخته الصغيرة التي لا تعرف ما حدث، وماذا يعني يوم الحزن، كحال أخيها، لا يدركان ما الذي حدث ويحدث، سوى أنه قد غدا رجلًا متكهلًا... الخ.
رأيت -أيضًا- بعض الكتب والملازم والأوراق المتناثرة بين الركام، وكانت تدرس للطلاب اليمنيين والوافدين من أنحاء العالم، وتصفحت بعضها، كانت الخرافة طافحة في كل حرف وعنوان، ناهيك عن العنف والحث على قتال الأعداء والكفرة... الخ، كتب وملازم وفتاوى لغسل الأدمغة، معززة بالنصوص الدينية من القرآن والأحاديث النبوية وابن تيمية، والألباني، وأساطين الفقهاء الداعين إلى تكفير المجتمع، أي التفسيق بالمجمل، نعم، كانت مترعة بكل أنواع الموت والقتل والحرب، وانتقاص النساء -الخطيئة من المولد وحتى القبر- إنها كتب الظلامية السلفية والدينية المشبعة بالأوهام، بالتعصب والتطرف، والولاء والبراء من اليهود والنصارى والصوفيين والشيعة -الروافض... الخ، بالمجمل كتب وملازم القيامة، وهي جزء من منظومة التعليم والثقافة في اليمن أكانت سنية أم شيعية.
عرفت ماذا يعني أن تتعلم وتنضم إلى دماج -كما تحدث ذلك اليافع الذي لقيته في طريق السفر، وذكرته سابقًا- في ظل سلفنة وعسكرة التعليم وتفخيخه بالمليشيات المتطرفة، التي تتوسع بالإرهاب والعمليات التفجيرية في اليمن والعالم، استنادًا إلى مرجعياتهم التي تزعم أنها قابضة على بيضة الإسلام عبر دور الحديث والمساجد، والشارع والتعليم، والثورة، والحياة، بمعنى ماذا يعني أن تحدد تفكيرك وحياتك بمنهج "الصواعق في تحريم الملاعق" لمؤسس دار الحديث والمعلم والقبيلي والشيخ: مقبل الوادعي.
فملاعق وصواعق وهوامع نارية وفاعلة تهدف بثبات وترصد إيماني متعصب لإلغاء العقل بكل مستوياته الفكرية، التعبئة المبرمجة ضد كل شيء يخالفهم، فهم "أهل الحديث والسُّنة النقية"، كتب ملازم وأشرطة مكرسة لصناعة العدو الداخلي والخارجي، خصوصًا "الشيوعية والشيعة"، مثل الكتب الشهيرة للمؤسس مقبل الوادعي: "السيوف الباترة لإلحاد الشيوعية الكافرة"، و"غارة الأشرطة"، و"المخرج من الفتنة"... الخ من عشرات الترسانة الملغومة من الفرز الذهاني العقائدي تفتك بالقريب قبل البعيد، الكافر من المؤمن، والمؤمن من الأقل أو الأكثر إيمانًا، كان الإلغاء هو مقياس ريختر، وعلى كافة الأصعدة: يقول الوادعي، عن حداثيي اليمن: "وإني أحمد الله، فالشعب اليمني يرى الحداثي كأنه يهودي، وإني لأعجب أن تؤلف الرسائل في مصر في الثناء على عبدالعزيز المقالح، وهو في اليمن، وقد احترق بسبب ما يظهره من الكفر البواح، ولكن هذا شأن أعداء الإسلام، إنهم يرفعون من يتظاهر بالكفر والإلحاد، وإن كان إنسانًا لا يساوي بعرة" (المخرج من الفتنة، 48-49).