بين هذه اللاءات واشتراطاتها الموضوعية يغرق الواقع اليمني ومأساته.. ففي الوقت الذي لا تريد فيه الرياض أية مواجهات عسكرية ضد جماعة الحوثي، وتعمل بكل أدواتها السياسية وثقلها الإقليمي على ضمان ذلك، تعمل الإدارتان الأمريكية والبريطانية على إعاقة إنجاز تسوية سياسية بين الحوثي ومختلف الفرقاء اليمنيين، انطلاقًا من تأكدهم أن أية تسوية ستكون لصالح جماعة الحوثي، بخاصة وأنه قد رفض كل المقترحات السابقة التي كانت توازن بين مصالح الأطراف. هذا بالإضافة إلى أن ثمة أهدافًا ضمنية للغرب في سياق تخادمي تحبذ بقاء جماعة الحوثي بهكذا وضع قد يساعدها في ظله في إدارة عملية التطبيع بين السعودية وإسرائيل على نحو معين! لذلك فإن كافة الأطروحات والنقاشات السجالية المتعلقة بأولويات هذه المرحلة ستستغرقها هذه اللاءات بكل ما لها من جدالات ومباحثات ديالكتيكية، ولن تسفر تلك المعطيات في مدى العام 2025 عن أي وفاق نهائي! ففي الوقت الذي تحاول فيه الرياض توحيد منظومة العمل السياسي والعسكري بين فصائل الشرعية، تعمل جماعة أنصار الله بخطى حثيثة على اغتنام الوقت في إنجاز تنميط وتبيئة رؤاهم ومصالحهم في واقع اليمنيين على كل الأصعدة، بخاصة ما يتعلق في الوقت الراهن في عملية إعادة إنتاج وهيكلة الإطار البنيوي لمؤسسات الدولة في صنعاء بما يتلاءم ويتناغم ويستوعب استحقاقاتهم السياسية عن المرحلة في البنية المؤسسية للدولة التي ستكون نموذجًا بنيويًا مؤسسيًا مختصرًا يمكنهم من فرض رؤيتهم السياسية مستقبلًا كأمر واقع ومتحصل من عمليات الدمج والإلغاء المؤسسي الذي ينفذونه اليوم، لا سيما وقد سبق لهم إلى حد ما أن أعادوا إنتاج تسوية وهيكلة الملفين الاجتماعي والاقتصادي بما كفل ويكفل لهم تنميط مصالحهم بهذا السياق، وإعادة إنتاجه في هذين الملفين من تغيير وإعادة صياغة للمراكز والمصالح الاجتماعية، وتبيئة وتنميط رساميلهم في القطاعات الاقتصادية الكبرى (بنوك – اتصالات... الخ)، كمقدمة قادت إلى ما يعتمل اليوم في الإطار البنيوي والمؤسسي للدولة والسلطة، مستخدمين في إنجاز ذلك كل ما هو متاح من أدوات السلطة أو أدواتهم الاعتباطية الواقعية المعروفة.. وبهكذا خطوات تكون جماعة أنصار الله هيأت معترك الميادين الاجتماعية والاقتصادية والبنيوية والسياسية، وراكمت عليها مصالح واستحقاقات جديدة تفرض حتمًا وبكل تراكمات الواقع هذه الأطروحات في المستقبل، لتكون هي الإطار الناظم الذي يستوعب أية تسويات قادمة.
إن جماعة الحوثي تسابق الوقت في الإنجاز، وتدرك أنها ليست على قائمة الإسقاط الأمريكي حاليًا، وتعي موقف الرياض المتناغم معها قسرًا لأسباب ليست خافية... بينما فصائل الشرعية تتخبط في تناقضاتها، عاجزة عن إنجاز أية أرضية سياسية تنتظم فوقها مصالحهم الجمعية والوطنية في سياق إدارة المرحلة أو مواجهة الحوثي، أو حتى إنجاز تسوية معه، بخاصة وأن الرياض رغم جهودها في هذا السياق، إلا أنها لا تملك أن تفرض أرضية وطنية صلبة لتتوحد فيها فصائل الشرعية، لأن السعودية تدرك ردة فعل الحوثي أمام خطوات من هذا القبيل، كونه في كل المنعطفات الجدية السابقة كان يخرج زعيم الجماعة، وبصريح العبارة، مهددًا باستهداف آبار النفط والمنشآت السعودية. وهذا ما تخشاه الرياض حتى الخوف، بخاصة في ظل مضيها في تنفيذ مشروعها التنموي التصحيحي القائم.
لكن السؤال: إلى متى ستستمر هذه المعادلة المعقدة؟ وما هي الاشتراطات الموضوعية للخروج منها؟
إن أمريكا وبريطانيا تحديدًا تحولان دون تسوية سياسية باليمن، لعلمهما أن الحوثي سيفرض أطروحاته الصلبة في أية تسوية بهكذا وضع، بخاصة وأن ورقة القوة غير واردة لأسباب سعودية وأمريكية أيضًا، لذلك فهي تحتفظ -أي أمريكا- بالحوثي لاستخدامه في سياق تخادمي ضمني تضغط به على الرياض في الدفع بعجلة التطبيع مع إسرائيل.. ولحين إنجاز هذا الملف الإقليمي الكبير، ربما بل حتمًا سيكون الموقف الأمريكي قد تغير تجاه جماعة الحوثي، وحينها لا تستطيع الرياض كبح جماح أي توجه أمريكي ضد الحوثي، حتى وإن كان ذلك التوجه يضر بمصالحها الإقليمية!
إن هذا السياق وحده هو ما يحول دون تصنيف الإدارة الأمريكية لجماعة الحوثي كمنظمة إرهابية، ويفسر التخاذل في ردة فعل أمريكا عن الهجمات التي ينفذها الحوثي بالبحر، وكذلك عدم جدية تل أبيب في أعمالها العسكرية تجاه صنعاء مثلما عملت مع حزب الله!
إن المسالة اليمنية اليوم أصبحت إحدى الأوراق التي تستعمل وتستغل فوق طاولة المقامرات الإقليمية الراهنة. وللأسف فإن الحوثي وجماعته، ومعهم إيران، أدركوا هذه المسألة، ورتبوا خياراتهم ضمن اشتراطاتها ومتطلباتها الموضوعية من خارج الأرضية الجامعة للمصالح اليمنية... كما يسعون لاستغلال فضاءاتها في الداخل اليمني، وبلغت ذروة ذلك الاستغلال في تنفيذ عملية الدمج المؤسسي الذي تواليه اليوم جماعة الحوثي في صنعاء، دون أن يلتفت أحد لتلك العملية الخطيرة وتبعاتها على المستقبل.. بينما لاتزال فصائل الشرعية وداعموها متخبطين وتائهين في مربع تناقضات مصالحهم الضيقة، لا أفق لهم سواء في إدارة المرحلة أو مواجهة الحوثي أو إنجاز تسوية معه.. إذ أغلبهم منتشٍ بالحدث السوري، والآخر منتظر إدارة ترامب لتصنيف الحوثي جماعة إرهابية، كما لو أنهم مؤمن منتظر ليلة القدر!