بسقوط بشار الأسد الديكتاتوري الممانع، وصعود أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني) الإرهابي الموالي، خسر محور المقاومة ولم يربح الشعب السوري الشقيق من هذا التحول السياسي العاصف. الرابح الحقيقي في هذا التحول الدرامي كان هو المحور التركي وبالتبعية إسرائيل والغرب الإمبريالي والنظام الرَجعي العربي، على حد توصيف الحزب الشيوعي التركي لما جرى يوم 8 ديسمبر 2024. حسنًا، ولكن ماذا بشأن الاحتفالات الشعبية الواسعة بالحدث؟
يمكننا القول إنَّ الاحتفالات الشعبية بسقوط بشار الأسد، التي عمت المدن السورية، كانت ابتهاجًا بالحدث، ورفضًا للفساد والقمع، وتعبيرًا عن الأمل في تحسن الأوضاع المعيشية، ولكنه كان في جزء كبير منه خادعًا. إنه كالابتهاج الخادع بسقوط صدام حسين سنة 2003، ومعمر القذافي سنة 2011، ذلك أنَّ نسبة هائلة من الناس الذين ابتهجوا بسقوط بشار كانوا ابتهجوا بصعوده في ذات المكان في سنوات سابقة. وتفسير هذا التحول غير العقلاني في مِزَاج الجماهير، وفقًا لعالم النفس الفرنسي، جوستاف لوبان، هو أنَّ "الجماهير تدفعها غرائز ودوافع بدائية، مثل الحاجة إلى الانتماء أو الخوف، مما يؤثر على سلوكها وتوجهاتها".
ومن يتابع المشهد السياسي في سوريَا اليوم، سيلاحظ بوضوح تناقضات في غاية الغرابة. ذلك أنَّ الأضواء الإعلامية ولا سيما التركية والعربية الخليجية والصهيونية والأمريكية، تغفل المؤامرة الإمبريالية والصهيونية والتركية والعربية الكبرى على سوريَا، وما نجم عنها من دمار شامل للدولة السورية، وتعزو كل الخراب الذي ألمَّ بالدولة السورية إلى النظام السابق وحده.
إذْ تركز، بشكل انتقائي ماكر، على الأسد الديكتاتوري، وعلى الأحداث التي وقعت في المرحلة القديمة، وتتجاهل، بشكل مقصود، استباحة الكيان الصهيوني للأراضي السورية في المرحلة الجديدة، وما جرى من تدمير كامل للقوات المسلحة السورية، الجوية والبحرية والبرية. فضلًا عن احتلال جبل الشيخ والقنيطرة، والاقتراب إلى مسافة خمسة وعشرين كيلومترًا من العاصمة السورية دمشق.
في هذا السياق، يُقبَّح الرئيس السوري بشار الأسد، المنتخب ديمقراطيًا، وإن بشكل زائف، ويُوقَّر أحمد الشرع الجولاني، رئيس هيئة تحرير الشام، غير المنتخب، المدعوم من النظام التركي، والمتهم بالإرهاب، ويصور كأنه بطل أسطوري خارق للعادة.
لقد أُتيح المجال لأحمد الشرع الجولاني لكي يتصدر المشهد السياسي، وينفذ المهمات المنوطة به من قبل الاستخبارات التركية والإمبريالية، كما أتيح له أن يخاطب الغرب ويتحدث إليه عبر قناة CNN الأمريكية ذائعة الصيت، عن جرائم بشار وصناعة المخدرات وعبث النظام الإيراني. فضلًا عن تمكينه من الحديث عن مشروعه المستقبلي، الذي سيتضمن، كما يزعم: الشراكة ودولة المؤسسات والسوق الحرة، أي التوجه الرأسمالي!
ولكن أحمد الشرع الجولاني، سواء في حديثه لـCNN، أو في خطابه في المسجد الأموي وفي أماكن أخرى، لم يدن إسرائيل التي تستبيح سوريا، ولم يدن تواطؤ الولايات المتحدة مع جرائم الكيان الصهيوني، وهي الجرائم التي وصفها مستشار الأمن القومي الأمريكي، جيك سوليفان، بكل وقاحة، بأنها "تتم وفقًا لمبدأ الدفاع المشروع عن النفس". وعلى الرغم من أن ما يقوله أحمد الشرع الجولاني عن مشروعه السياسي، يجد بعض الاستحسان في الأوساط الصهيونية والغربية والعربية الرجعية، إلا أنَّ أحمد الشرع الجولاني لايزال مدرجًا على قائمة الإرهاب.
تُرى، هل يتم مكافأة أحمد الشرع الجولاني، والعفو عنه، بعد أن خدم الأتراك والمحور الصهيوني والإمبريالي، وأدى المهمة المنوطة به بنجاح منقطع النظير؟
وفي هذا الصدد، قد تبادر الولايات المتحدة، بتأثير من تركيا، بالعفو عن أحمد الشرع الجولاني، مما قد يخرجه من دائرة الاتهام بالإرهاب، وقد يرفع عن سوريَا قانون قيصر، وتلغي عنها العقوبات، ولكن هذا القرار، وهو من المرجح أنْ يتم، سيكون مشروطًا.
ذلك أنَّ شروط العفو الأمريكي تتطلب من أحمد الشرع الجولاني التوبة بالتخلي عن الإسلام الراديكالي، وتبني الإسلام الليبرالي على الطريقة التركية، وبتقصير لحيته، وتقمص شخصية زيلينسكي، وارتداء ذات الملابس، والامتثال لمجموعة من المطالب التركية والصهيونية والأمريكية، التي يمكن تلخيصها على النحو التالي:
1. الاعتراف بالاحتلال الإسرائيلي: سيتعين على أحمد الشرع الجولاني الاعتراف، بشكل واضح أو مموه، بالاحتلال الإسرائيلي القديم والجديد للأراضي السورية، والاعتراف بدولة إسرائيل والتطبيع معها، والتخلص من النفوذ الإيراني والروسي.
2. تصفية الوجود الفلسطيني: سيُطلب من أحمد الشرع الجولاني أن يتخلص من الوجود الفلسطيني المقاوم، وكل ما له صلة بالمقاومة الفلسطينية في سوريَا.
3. الموافقة على الاحتلال التركي: سيُطلب من أحمد الشرع الجولاني أن يوافق على الاحتلال التركي لشمال سوريا، وهي مساحة تفوق مساحة دولة لبنان، بل يمكن مضاعفة المساحة المحتلة الحالية، إذا سُمح لتركيا أن تضم حلب وأجزاء من إدلب إلى أراضيها، وهو أمر وارد.
4. الاعتراف بالحكم الذاتي للأكراد: ينبغي أن يعترف أحمد الشرع الجولاني بالحكم الذاتي للأكراد في منطقة بعيدة عن الحدود التركية، بحيث لا يمثلون تهديدًا لتركيا الأطلسية.
5. القبول بالقواعد العسكرية الأمريكية: سيطلب من أحمد الشرع الجولاني وزمرته القبول بوجود القواعد العسكرية الأمريكية في شرق سوريا، تحت ذريعة مواجهة داعش، مع السماح للولايات المتحدة بالسيطرة على الثروات الغازية والنفطية السورية.
6. القبول بالنفوذ الخارجي: يجب على أحمد الشرع الجولاني أن يقبل بالنفوذ التركي والأمريكي والصهيوني، في تركيبة الدولة السورية الجديدة.
7. حصار حزب الله اللبناني: سيتعين على أحمد الشرع الجولاني العمل على حصار حزب الله والقوى الوطنية التقدمية اللبنانية والفلسطينية في دولة لبنان، وفي المقابل سيتعين عليه تعزيز مكانة القُوَى السنية والمارونية الرجعية اللبنانية الموالية لأمريكا وإسرائيل والرجعية العربية.
8. التآمر على العراق: يجب على أحمد الشرع الجولاني أن يتآمر على العراق تحت شعار الدفاع عن أهل السنة والجماعة هناك، وكبح التدخل الإيراني في العراق.
9. الاعتراف بحقوق الأقليات: يجب على أحمد الشرع الجولاني الاعتراف بحقوق الدروز والمسيحيين في سوريَا، بما في ذلك إنشاء حكم ذاتي أو كيانات خاصة بهم محمية من إسرائيل وأمريكا والغرب الإمبريالي.
10. التخلص من الجماعات القومية واليسارية: يجب على أحمد الشرع الجولاني وزمرته التخلص من الجماعات ذات التوجه القومي واليساري والإسلامي الثوري في سوريَا.
11. الحفاظ على مصالح القُوَى الخارجية: سيُسمح لسلطة أحمد الشرع الجولاني، إنْ أراد، أن يستأنف الديكتاتورية بنكهة إسلامية في سوريَا، وأن يُشرِّع للارتزاق والخيانة، وإطلاق العنان للسفالة، وتقييد الحريات المدنية، وإجبار الممثلين على تطويل اللحاء، ونتف شعر الممثلات المتبرجات، وخنق المغنيات، ولكن لن يُسمح لسلطته أن تمس بمكانة تركيا، أو إسرائيل، أو أمريكا، أو الرجعية العربية.
12. بناء سلطة خدمية: يجب على أحمد الشرع الجولاني أن يبني سلطة سياسية ذات توجهات خدمية، تركز على صناعة الضيافة، Hospitality industry، التي تشمل الفنادق والمطاعم والأنواع المبتكرة من الطعام وصناعة الحَلْوَيَات، مثل البقلاوة والكنافة والمهلبية، والسياحة والترفيه، والتركيز على إنعاش الزراعة والصناعات الخفيفة، والانشغال بتجارة الاستيراد والتصدير.
13. إنشاء جيش سوري محدود: يجب على سلطة أحمد الشرع الجولاني إنشاء جيش محدود العدد والعدة لحفظ الأمن الداخلي ومراقبة الجماعات السياسية المناهضة لتركيا والصهيونية والإمبريالية والرجعية العربية.
14. إقامة دولة سورية كسيحة: يجب على أحمد الشرع الجولاني وزمرته أن يسعى لإقامة دولة سورية بلا هُوِيَّة قومية عربية، لتكون مجرد معبر للغاز القطري إلى تركيا ومن ثم إلى الدول الغربية، وبذلك إنعاش الاقتصاد القطري والتركي والغربي على حساب روسيا وإيران.
إذا استجاب أحمد الشرع الجولاني لهذه المطالب، فسيتم العفو عنه، وسيرفع اسمه من قائمة الإرهاب، وسيصبح زعيمًا بارزًا، وسيُستقبل في العواصم العربية والغربية. وستستمر وسائل الإعلام العربية والغربية في الحديث عن مثالب بشار الأسد الديكتاتوري ووحشية سجن صيدنايا، في حين تُبرز محاسن أحمد الشرع الجولاني "الديمقراطي" الذي هدم سجن صيدنايا، وأعاد الأمن والأمان إلى سوريَا. وقد يُقام له تمثال أكبر من تمثال حافظ الأسد الذي هُدم في اليوم المشهود في 8 ديسمبر 2024.
أما إذا تطاول أحمد الشرع الجولاني على المحور الصهيوني والإمبريالي والرجعي، أو حرك ذيله، فلن يُغفر له، وسيكون مصيره التصفية باعتباره إرهابيًا قبيحًا، ليحل محله إرهابي "مليح"، من ذوي الأيديولوجية الإسلامية العمياء أو الليبرالية الشوهاء، فلا يهم العنوان الأيديولوجي للزعيم الجديد، مادام يخدم الهدف المرجو منه!
هذه هي الاحتمالات المرجحة لمسار الأحداث القادمة في سوريَا، ذلك أن هذه الديناميكيات القائمة، تكشف تعقيدات المشهد السوري، حيث تتداخل المصالح الإقليمية والدولية، مما يطرح تساؤلات حول مستقبل سوريا وهويتها، ومستقبل العالم العربي برمته.
ومع ذلك، خارج هذه الصورة الكئيبة، تُرى هل يستطيع السوريون، بمختلف أطيافهم العرقية والدينية، أن يتوافقوا ويتحرروا من الميول الديكتاتورية والإرهابية، ومن التبعية للقوى الخارجية، ويقيموا نظامًا ديمقراطيًا عادلًا بهوية عربية، ويستعيدوا أراضيهم المحتلة؟ في الوقت الراهن هذه الاحتمالات أقل ترجيحًا، ولكن على المدى البعيد، الشعب السوري، بوعيه وإرادته، سيواجه مكر التاريخ، وسينتصر في النهاية.
والآن، اسمحوا لي أنْ أقدم نصيحة متواضعة لأهلي وأصدقائي اليمنيين: يجب ألا تنشغلوا بما جرى في سوريَا في عهد بشار الأسد الديكتاتوري الذي وضع في السلطة من الطائفة، وتمت حمايته، وهو في السلطة من قبل قُوَى خارجية، ولكنه أسقط من السلطة بتآكل طائفته، وبقوى خارجية أخرى، بل عليكم أن تفكروا في مَا يجري في عهد أحمد الشرع الجولاني الديمقراطي، الذي صُعِّد إلى السلطة هو الآخر بإرادة خارجية.
والأهم من ذلك، لا تنساقوا وراء الطابور الرجعي والصهيوني والإمبريالي، وترددوا، مثل الببغاوات، ما يقوله أحمد الشرع الجولاني، وتتقمصوا شخصيته، للبرهنة على نزعاتكم الديمقراطية والليبرالية الأصيلة التي لا ريب فيها، بل يجب أن تفكروا بعمق في مَا يمكن أن يجري في وطنكم اليمني في قادم الأيام.
إذا ركبتم رؤوسكم وتجاهلتم الحِوار الوطني المسؤول مع أشقائكم في صنعاء، واتبعتم ذات المسار الذي سار عليه أحمد الشرع الجولاني، وقررتم أن تسقطوا صنعاء، بمساعدة خليجية، وتركية، وصهيونية وأمريكية وبريطانية، كما فعل الجولاني في سوريَا، فإن الأعداء وحدهم سيكسبون، فيمَا الشعب اليمني سيفقد وطنه، ولن يربح سوى الجحيم وسوء المصير!