التحالفات غير المتوقعة بين القوى الليبرالية الغربية، وشركائها المحليين، والحركات الجهادية، تشرح بوضوح أنه حين تتلاقى المصالح الاستراتيجية والجيوسياسية، سرعان ما تذوب التناقضات الأيديولوجية.
العالم لا تحكمه الأيديولوجيا، بل تُستخدم كأداة، وما يُحرك القرارات الكبرى هو المصالح الاستراتيجية التي تضمن بقاء الدول الكبرى في موقع الهيمنة، والأيديولوجيات تظل مجرد شعارات لإضفاء الشرعية على السياسات، للترويج لقيم الحرية، والديمقراطية، وحقوق الإنسان كمبرر للتدخلات أو التحالفات، لكن عندما يُدق ناقوس المصلحة، تُدفن المبادئ تحت ركام السياسة الواقعية، لإعادة تشكيل موازين القوى وتغيير الخرائط.
سبق ودعمت القوى الغربية، وشركاؤها المحليون الحركات الجهادية باعتبارها الخيار الجريء في أفغانستان، وأدت إلى تبعات كارثية تجاوزت حدود أفغانستان، وخلقت بعد غزو العراق انقسامًا طائفيًا، وفراغات استفادت منها تنظيمات متطرفة مثل "داعش". تدخل الناتو عسكريًا لدعم المعارضة الليبية، التي تضمنت جماعات إسلامية متطرفة، لكن هذه الجماعات نفسها تُركت لتُستخدم كورقة تفاوض، أو ذريعة لتدخلات لاحقة.
وأحداث سوريا اليوم لا تستدعي قراءة خاصة، وليست استثناءً من حيث التجربة، لأن الصورة الأكبر تتجاوز تعقيدات البنية الاجتماعية السورية، وتنوعها الطائفي والعرقي. والأخذ بعين الاعتبار هذه التركيبة المتشابكة، وجذور تعقيداتها يفضي إلى نتيجة أنها ليست المحرك الأساسي للصراع، وإنما بمثابة الوقود الذي يشعل به صراع أكبر.
سوريا مجرد حلقة إضافية من حلقات هذا الدعم الغربي، والشحن العاطفي العربي، لا بدافع الشراكة الأيديولوجية، واحترام إرادة الشعب - فرضًا - في اقتلاع النظام، بل لأنه يخدم أهدافًا أكبر تخصهم، كسابقتها في مواجهة السوفييت في الحرب الباردة، واليوم لتقويض نفوذ روسيا وإيران. ولا يمكن اعتبار أي تغيير جيوسياسي استقرارًا بالضرورة، بل هو مجرد تقويض فرص بعض اللاعبين الدوليين، لتمكين آخرين.
الوجود الروسي والإيراني في سوريا ليس فقط قضية سورية، بل جزء من صراع إقليمي أكبر بين محاور النفوذ في الشرق الأوسط. وخروج هذه القوى لا يعني نهاية الصراع، بل إعادة توزيع الأدوار فقط. إسرائيل ستستغل غياب روسيا وإيران لإعادة صياغة أمنها الاستراتيجي في المنطقة، خاصة في جنوب سوريا، وتركيا ستسعى لتوسيع تدخلها شمال سوريا لتحقيق أجنداتها القومية على حساب الأكراد.
وعلى مسرح هذا الصراع، يُلاحظ التحول في المزاج العربي تجاه الحركات الجهادية، والانقسام بين الدعم والرفض. وهو مرآة تعكس صراعًا عميقًا بين الواقع، والبدائل المتاحة، والإحباط الذي يقود أصحابه نحو دعم الفوضى، والتطرف كوسيلة انتقامية، مع أن التجربة العملية تثبت أن في المحصلة النتائج مدمرة. والسؤال هنا: لماذا يستمر هذا النمط في التكرار؟
فهم الديناميكيات الأعمق لطبيعة الصراع يكشف أن القضية لا تتعلق فقط بمن يسيطر على الأرض أو يؤثر في السياسة المحلية، بل بمن يتحكم بالمعادلة الإقليمية والقدرة على إعادة رسم الخرائط الجيوسياسية.