صنعاء 19C امطار خفيفة

قراءة أولية في بيان إشهار "التكتل الوطني للأحزاب والمكونات السياسية" ولائحته التنظيمية (٢-٢)

الإشهار

 
توضح ديباجة بيان الإشهار بواعث إنشاء التكتل، ونوردها هنا بنصها، كما وردت في الديباجة، مع وضع ترقيم لها، يميز بعضها عن بعض:
"الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية التي تعيشها بلادنا، وعلى رأسها انسداد أفق الحل السياسي وتفاقم معاناة المواطنين في جميع المحافظات، بسبب انهيار مؤسسات الدولة واتساع تداعيات الحرب التي تسبب بها انقلاب مليشيات الحوثي، ودخلت عامها العاشر".
"ما رافق عمل الشرعية والقوى السياسية الداعمة لها من قصور وأخطاء وتباينات المصالح والرؤى، التي تستدعي المعالجات الجادة".
"ضرورة وحدة الصف الوطني لمجابهة تلك التحديات وتحقيق الهدف الجامع المتمثل باستعادة الدولة وإنهاء الانقلاب".
في البند السابع من البيان ورد تأكيد أكثر وضوحًا للهدف الجامع هذا، وهو أن الباعث الأساسي لإنشاء التكتل هو "تعزيز الاصطفاف الوطني من أجل إنهاء انقلاب مليشيات الحوثي واستعادة الدولة".
وأهم ما يلفت النظر هنا، هو الإشارة إلى انسداد أفق الحل السياسي، كباعث من بواعث إنشاء التكتل. فهل في هذا تلويح بالاتجاه نحو الفعل العسكري، مادام أفق الحل السياسي قد أصبح مسدودًا؟
وقد أشار البيان إشارة سريعة إلى الجهود التي سبقت عقد المؤتمر التأسيسي للتكتل، فذكر أن الأحزاب والمكونات السياسية عقدت سلسلة لقاءات تشاورية، لتقييم دورها السياسي وما يتوجب عليها كقوى داعمة للشرعية وحاملة للمشروع الوطني، وباعتبارها جزءًا أصيلًا من النظام السياسي والشرعية الدستورية والتوافقية. وتكللت تلك المشاورات بالاتفاق في يوم الثلاثاء الخامس من نوفمبر 2024م على تشكيل تكتل سياسي وطني باسم "التكتل الوطني للأحزاب والمكونات السياسية".
من الملاحظ هنا أن البيان لم يتضمن تقييمًا للدور السياسي للأحزاب والمكونات السياسية. وهو التقييم المشار إليه ضمن دواعي عقد اللقاءات. ولا شك في أن تقييم ما جرى في الماضي، من ممارسات وأدوار وعلاقات وخطط وتوجهات، أمر لا غنى عنه، كأساس لأي بناءٍ جادٍّ جديد.
بعد ذلك يورد البيان في أحد عشر بندًا ما اتفقت عليه جميع الأحزاب والمكونات المؤسسة للتكتل، ونوجزها في ما يلي:
إشهار التكتل وإقرار لائحته التنظيمية، واعتبار اللائحة مع بيان الإنشاء وثيقتي تأسيس التكتل، والتوافق على الرئاسة الدورية، وتحديد المبادئ والأسس التي يلتزم التكتل بها، وهي نفسها الواردة في اللائحة التنظيمية. ويذكر البيان أن التكتل سيضع برنامجًا سياسيًا لتحقيق جملة من الأهداف، استهلها باستعادة الدولة وإنهاء الانقلاب، ثم حل القضية الجنوبية والحفاظ على النظام الجمهوري في إطار دولة اتحادية والحفاظ على سيادة الجمهورية واستقلالها وسلامة أراضيها ودعم سلطات الدولة لتوحيد قرارها وبسط نفوذها على كافة التراب الوطني، وتعزيز علاقات اليمن بدول الجوار ومحيطها العربي والمجتمع الدولي ومحاربة الفساد والغلو والإرهاب ورفض التمييز بكافة أشكاله واستئناف الحياة السياسية في عموم محافظات الجمهورية ورفض فرض المشاريع والرؤى السياسية بالعنف ومساندة الحكومة في برنامجها الاقتصادي لتقديم الخدمات ورفع المعاناة عن كاهل المواطنين وعودة جميع مؤسسات الدولة للعمل من العاصمة المؤقتة عدن.
وبعد أن أنهى البيان سرد ما اتفقت عليه جميع الأحزاب والمكونات المؤسسة للتكتل، وما سيتضمنه برنامجه السياسي من أهداف، أكد أن التكتل هو امتداد لصيغ الشراكة والتوافق وجهود وحدة الصف، وأن الباعث الأساسي لتأسيسه هو إنهاء انقلاب الحوثيين واستعادة الدولة، وأنه ليس موجهًا ضد أحد من شركاء العمل السياسي، وأنه تكتل طوعي أنشئ بإرادة وطنية لإيجاد تحالف واسع لدعم الشرعية والاصطفاف مع مجلس القيادة الرئاسي وتوحيد المواقف حول برنامج إنقاذ وطني يرتكز على ما تضمنه إعلان نقل السلطة (من الرئيس عبد ربه إلى المجلس الرئاسي).
ويحدد البيان الأولويات الجامعة لكل المشاريع السياسية للمكونات، وفي مقدمتها إنهاء الانقلاب واستعادة الدولة، ويؤكد أن التكتل سيعطي الأولوية في برامجه وأنشطته للجانب الاقتصادي والمعيشي للمواطنين، ويدعو الحكومة للقيام بإجراءات للحد من انهيار العملة الوطنية ومعالجة التدهور الاقتصادي وإعادة النظر في سلم أجور موظفي الدولة المدنيين والعسكريين وأسر الشهداء والجرحى في عموم المحافظات. ثم يؤكد على الموقف المبدئي والثابت للشعب اليمني الداعم للقضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني المشروعة في تقرير المصير وإقامة دولته المستقلة، مع إدانة جرائم الاحتلال الصهيوني في غزة ولبنان. وأخيرًا يحيي التكتل تضحيات الجيش الوطني والمقاومة الشعبية، ويدعو جماهير الشعب إلى مزيد من التلاحم والاصطفاف والالتفاف حول مؤسسات الشرعية والقوى الوطنية الحاملة لراية النضال لاستعادة الدولة وإنهاء الانقلاب وتحقيق السلام والاستقرار والنماء، ويعتبر نفسه خطوة في هذا الطريق جنبًا إلى جنب مع كافة القوى الوطنية. وقد ذُيِّل البيان بقائمة ضمت أسماء الأحزاب والمكونات السياسية الموقعة عليه.
وفي هذا الإيجاز للبنود التي تضمنها البيان، يستوقفنا بعض ما ورد فيها:
يشير البيان إلى أن هذا التكتل يمثل امتدادًا لصيغ الشراكة والتوافق وجهود وحدة الصف التي ابتدأت بالاصطفاف الوطني لمواجهة الانقلاب الحوثي في عام 2014م، ويسرد الصيغ والجهود السابقة جميعها. ولكنه، كما أشرنا سابقًا، لم يقدم تقييمًا لها، ولمدى نجاحها إن كانت نجحت، أو فشلها الذي يبرر إنشاء صيغة جديدة، متمثلة بالتكتل الجديد، وأسباب الفشل التي يجب التنبه لها، وتحاشي الوقوع فيها مستقبلًا. ومثل هذا التقييم ليس أمرًا هامشيًا، بل هو أمر ضروري وأساس لا غنى عنه لسلامة البناء الجديد. وجوده يؤكد جدية العمل الجديد، وغيابه يشي بعدم الجدية.
ولا يملك المرء هنا إلا أن يتساءل: ما الداعي أصلًا إلى إنشاء تكتل جديد، مماثل للتحالف القديم، الذي سبق الإعلان عن إنشائه في 13 أبريل من عام 2019م، بمدينة سيئون؟ أما كان من الأصوب والأوفر للوقت والجهد والمال، أن تضم إلى التحالف القديم المكونات التي لم تكن انضمت إليه لحظة إنشائه، بدلًا من إنشاء تحالف (تكتل) جديد، له نفس المواصفات والتوجهات والأهداف والاصطفاف؟ هل فشل التحالف القديم؟ وما أسباب الفشل؟ وكيف يمكن تجنب أسباب الفشل في أي بناء جديد؟ وهنا نعود إلى ضرورة تقييم الصيغ القديمة، قبل الشروع في بناء صيغ جديدة.
يؤكد البيان أن التكتل "سيعطي الأولوية في برامجه وأنشطته للجانب الاقتصادي والمعيشي للمواطنين، ويدعو الحكومة للقيام بإجراءات للحد من انهيار العملة الوطنية ومعالجة التدهور الاقتصادي وإعادة النظر في سلم الأجور لموظفي الدولة المدنيين والعسكريين وأسر الشهداء والجرحى في عموم المحافظات".
وهنا أغفل البيان المتقاعدين، الذين أفنوا حياتهم في الوظيفة العامة، وأعطوا الوطن الكثير عندما كانوا أقوياء. ومن الوفاء، وقد أضحوا ضعفاء، عدم إهمالهم عند إعادة النظر في سلم الأجور، لأن إعادة النظر في سلم الأجور لموظفي الدولة المدنيين والعسكريين وأسر الشهداء والجرحى، لن يمتد، قياسًا بما تم في الماضي، لن يمتد تأثيره بصورة تلقائية إلى معاشات من سبق إحالتهم إلى المعاش، قبل إعادة النظر.
يؤكد البيان "على الموقف المبدئي والثابت للشعب اليمني الداعم للقضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني المشروعة في تقرير المصير وإقامة دولته المستقلة، كما يدين جرائم الاحتلال الصهيوني في غزة ولبنان". وهذا تأكيد موفق دون شك. وإن كان معنى الدولة الفلسطينية المستقلة مايزال غامضًا حتى الآن. فالرسميون العرب، بمن فيهم السلطة الفلسطينية، لهم فهمهم للدولة الفلسطينية المستقلة، المتسق مع مفهوم الدول الداعمة للوجود الصهيوني في فلسطين، والمقاومة الفلسطينية لها فهمها المختلف.
يؤكد البيان في بنده السابع، أن الباعث الأساسي لإنشاء التكتل هو "تعزيز الاصطفاف الوطني من أجل إنهاء انقلاب مليشيات الحوثي واستعادة الدولة". ولكنه لم يخبرنا كيف سينهي الاصطفاف الوطني، معززًا بالتكتل الجديد، كيف سينهي الانقلاب ويستعيد الدولة. هل سيكون ذلك عبر استئناف الحرب التي دمرت مقومات حياتنا على مدى عقد من الزمان، أم عن طريق الحوار السلمي الجامع، الذي لا يستثني أحدًا ولا يتجاهل أية قوة من القوى اليمنية الفاعلة، سعيًا إلى إنهاء كل مظاهر الحرب والعنف والتشرذم، والتوجه، لا إلى استعادة الدولة الفاشلة التي لو تمتعت بقدر من الكفاءة والنزاهة والإخلاص، لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه، بل التوجه إلى بناء الدولة اليمينة القوية، القائمة على أسس الشراكة الوطنية والمواطنة المتساوية والتبادل السلمي للسلطة عبر صناديق الانتخابات؟
وترتبط بهذا التساؤل الكبير جملة من التساؤلات، التي تشغل الأذهان، ويصعب الإجابة عليها إجابة موضوعية، لا تثير أناسًا ولا توتر أعصابًا ولا تؤذي نفوسًا ولا تبعث ردود أفعال، قد تخرج عن حدود الحوار الموضوعي والجدل الرصين. ونكتفي هنا بإيراد أربعة منها:
هل يعتبر التكتل نفسه بديلًا صالحًا، ليحل محل الحوثيين؟ وهل في أوضاع مكوناته، المتباينة الرؤى والمصالح، كما يؤكد البيان، والتي جاوز عددها العشرين مكونًا، هل في أوضاعها وفي علاقاتها الداخلية والخارجية، ما يهيئها لتكون البديل المنشود للحوثيين، لا بديلًا أكثر تشبثًا بالسلطة وفشلًا في الإدارة وإخفاقًا في السياسة وتنافسًا بين أطرافه؟
هل بإمكان هذا التكتل أن يبدأ بإصلاح أوضاع الشرعية ودفعها نحو إيجاد نموذج للحكم، تتفوق به على الحوثيين، لتستميل قلوب المواطنين وعقولهم، وتقنعهم بالالتفاف حولها، من خلال الأداء السياسي والاقتصادي والإداري المتميز وتوفير الأمن والخدمات الضرورية للناس، ومن خلال العفة والنزاهة واختيار الكفاءات المخلصة لشغل الوظائف العامة، دون تمييز أو تفضيل؟
هل يدرك التكتل أن المقارنة قائمة في أذهان الناس، بين أداء الشرعية وبين أداء الحركة الحوثية، التي يبدو حتى الآن أنها تفوقت على الشرعية، ليس في ميدان القتال فقط، بل في توفير الأمن والمحافظة على الحد الأدنى من شكل الدولة والحد الأدنى من الخدمات في المناطق التي تحكمها، رغم أنها لم تنجح في إقناع المواطنين بسياساتها الاقتصادية والمالية والإدارية والتعليمية، ولم تنجح في إقناعهم، شأنها في هذا شأن "الشرعية" بأنها مهتمة بهم وبأحوالهم ومصالحهم وحقوقهم ومعيشتهم ورواتبهم ومعاشاتهم ورفع الغبن عنهم؟
هل ستقبل الحركة الحوثية، التي تمكنت من الاستيلاء على السلطة وأحكمت قبضتها عليها، هل ستقبل أن تتخلى عنها عبر حوار سلمي، يجنب اليمن مزيدًا من الكوارث والمعاناة، ويفضي إلى وضع أسس متينة للتبادل السلمي للسلطة والاحتكام إلى صناديق الانتخابات، ليختار الشعب من يحكمه، لفترة محددة، وفق ما ينص عليه الدستور؟ هذا سؤال مطروح ومتداول بين الناس، ولا شك في أن الحركة الحوثية هي المعنية بالإجابة عنه قبل غيرها.
هذه الأسئلة وأمثالها، تشغل الأذهان وتحير من يحاول أن يسبر أغوار الحالة الراهنة، أو يلم بأطرافها، أو يتلمس خفاياها، أو يستكشف الخلفيات الكامنة وراء سياسات وتحركات وممارسات المكونات السياسية المختلفة، المسلحة منها والمدنية، الحاكمة والمحكومة. وهي خلفيات تبدو لنا تجلياتها وكأنها تجليات مبهمة، تخفي وراء مظهرها اللطيف المعتنى به، أمورًا أخرى ليست بنفس اللطف.
وأخيرًا: من الواضح أن اختيار اسم "التكتل" للتجمع الجديد، يحمل دلالات الاصطفاف، في مواجهة تكتل مقابل. وهذا ما عبر عنه بيان الإشهار واللائحة التنظيمية بوضوح. ويبدو لي من الحكمة، ونحن كما يقال شعب الحكمة، أن نتوجه صوب الحوار والتفاهم في ما بيننا، رغم الصعوبات والتعقيدات الداخلية والتدخلات الخارجية، التي تقف عائقًا أمام هذا التوجه. ولكنها صعوبات وتعقيدات وتدخلات لا بد أن نعمل جميعنا على التغلب عليها. إذ لا سبيل أمام اليمنيين، يمكن أن يؤدي إلى إحلال السلام وبناء الدولة اليمنية الواحدة، إلا هذا السبيل. وهو سبيل لا بديل عنه إلا الحرب، بكل ما تحمله الحرب لنا من كوارث متعددة الأوجه، وما تنذر به من مآلات مفجعة، لا يستطيع أحد بمفرده أن يدرأها، أو جماعة لوحدها أن تحول دون وقوعها. وأقرب هذه المآلات المفجعة إلى التصور: تجزئة اليمن وبعثرة شعبه ومصادرة ثرواته وتقاسم أرضه وبحاره وجزره.
ولله الأمر من قبل ومن بعد.

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً