* تعيد النداء نشر قراءة نقدية كتبها المرحوم محمد ناجي أحمد عام 2017 بمناسبة صدور المجموعة الأولى للقاصة والكاتبة اليمنية الراحلة مها صلاح.
ـــــــــــــ
عن «دار أزمنة»، صدرت المجموعة الأولى «كانت تأخذني التفاصيل»، للقاصة مها صلاح. وهي المجموعة الأولى لقاصَّة ظهرت في النصف الثاني من التسعينيات.
تبدأ المجموعة بإهداء شعري..
"لأناملك الحنونة تهدهد جراحي كُلَّما نأيت، وزاد اغترابي عن ذاتي. لابتسامتك الحلوة المطمئنة، لتفاؤلك الدائم بأنَّ الحياة لاتزال
ب
خ
ي
ر
لشذى روحك،
لأبي".
اللغة الشعرية تواجهنا من عتبة هذه المجموعة الممثلة بالإهداء. فالأنامل التي تهدهد الرأس، وتمسح على جسد الأبناء، لها هنا وظيفة شعرية مختلفة؛ إنها "تهدهد جراحي"(5).
هذه الإزاحة اللغوية هي التي تُولِّد شعرية الإهداء، وكأنَّ هذه المجموعة السردية الشعرية ستكون هدهدة لجراح الذات.
«اعتراف»
بإحساس الطفلة التي تعمل مع الطبيعة من حولها بأنها أشياء يمكن مخاطبتها أو أخذها، يجول في خاطر هذا «الاعتراف» السردي بضمير المتكلم..
"لم أكنْ صغيرةً جدًا حينَ جالَ بخاطري أنَّ القمر قريبٌ من سطح دارنا، وأنَّني لو جمعت سلالمَ عِدَّة، وألصقتها ببعضها؛ سأصل إليه، وأغرِفهُ بمِلعقةٍ كبيرة، وأعود به في حقيبتي.."(9).
بهذه اللغة البصرية لنا أن نرسم المشهد من فتاة، وسلالم متلاصقة، وملعقة تغرف بها القمر، ثم تضعه في حقيبتها. إنه مشهد بصري متحرك يترجم إحساس الطفلة بالقمر، وكأنه من الصغر بحيث يمكنها أن تضعه في جعبتها. هو مشهد تأتي شعريته التشبيهية من إحساس الطفلة بالقمر؛ هو رفيق إحساسها..
"وجدتني، وقد بعثت له بسؤال طالما حيرني؛ قلت له: إنْ كان الله هو الذي يأمر القمر بأن يمشي معي كل يوم إلى دارنا، وينتظرني عند النافذة حتى أغفو؟!"(10).
فبعد أن أعطت القمر حجمًا صغيرًا في المشهد الأول، ها هي ذي تعطيه صورة الإنسان أو الملاك الذي يحرسها ويرافقها حتى تغفو. ولأنَّ "عصا الفقيه"، وعقليته التي لا تستطيع استيعاب خيال الطفلة وإحساسها الخلاق، تهوي عصاه..
"وفي لحظة ارتفعتُ في الهواء، عُلّقتُ من قدمي كذبيحة، واشتعلَ باطن قدمي كالجمر"(10).
هذا التباين بين عالمين: عالم جاف يخلو من الخيال، وآخر خلَّاق للخيال، وخِصْب الإحساس، ولديه أنسنة للأشياء. هذا الجفاف، وعصا الفقيه؛ جعل الطفلة تفقد الإحساس بالقمر لوقت طويل..
"مر وقت طويل جدًا خلتهُ دهرًا لم أرَ فيه صديقي القمر. ولم أجد إجابة لسؤالي"(10).
«شُوْعِي على الإنترنت»
شوعي المتعدد الأعراف والحكايات شخصية من شخصيات الشرق العجيب؛ صاغتها لغة الساردة؛ مستخدمةً ما أمكنها من تلميح لقصص وأساطير وحكايات يتمُّ فيه توظيف التلميح، وليس المتن بسياق يخص «شوعي»؛ فما توظفه تنتزعه من سياقه التاريخي والحكائي؛ ليصبح جزءًا من متن يرتبط بـ«شوعي»؛ وهو مِنْ اسمه دال على المُهَمَّش كاسم عَلَم يكثرُ استخدامه لدى فئة المهمشين(2).
وهو ذو دلالة مفعمة بالحياة، وكأنَّ الأسماء تعويذات وأمانٍ وأمنيات.
هو شخصية عادية، لكنَّ عين السائحة «إليزابيث» جعلت من خصوصياته المتعلقة بتاريخ أجداده، وتنوع أعراقهم حالةً سياحية يتزاحم حولها المتفرجون..
"ذات مساء جذبها من يدها، وأطلعها على كنزهِ الأثَرِي من الملابس والخناجر والعِصِيِّ المُطَعَّمة بالأحجار الكريمة، والعقود الفضية المزينة بالياقوت الأحمر".
"كاد يغمى عليها من الدهشة، وأصابها وباء التقاط صور شوعي بالأزياء المختلفة التي يرتبها بطريقته المميزة، وحكاياته المثيرة عن مصائر أفراد عائلته الذين لا يشبههم أحد:
جده الذي عشق جنيةً، وهام على وجهه، ولم يُعْثَر له ولا لأبنائه نصف البشريين على أثر.
الجد الأصغر المتمرد الذي أغرق نفسه وفرسه التي يحب بكامل إرادته في البحر.
خاله لأبيه الذي مات مُتَقرِّحًا في متاهات الصحراء بعد أن ملك الصحراء وعذارى الصحراء الجميلات.
جدته المُتَنَبِّئة التي حذَّرتْ قبائلهم ذات مرة من غزو وشيك، وأنقذت سلالتهم الممتدة في القدم".
هي صورة الشرق المحاطة بعوالم «ألف ليلة وليلة»؛ عالم الأساطير والكائنات التي لم ترقَ إلى الإنسان الكامل في الغرب؛ عالم الرومانسية الذي تحتاج إليه عقلانية الغرب الضَّجِر من محيطه المكتمل الإنسانية، والباحث عن لا عقلانية الشرق.
أليسَ له جدٌّ تزوج بجنية، وولدت له أنصاف بشر وأنصاف جن؟!
ألم تُوظِّف القاصَّة تاريخ غرق «ذي نواس»، ونبوءة «زرقاء اليمامة»، وتقرُّحَات «أبرهة» في سياق يبتعد عن الأصل، لكنه يوحي بصلته بذلك التاريخ وتلك القصص المُوَلِّدة للحكايات وعجائبية المكان والملابس والأدوات.
هو «شوعي» الذي له حضورٌ واضح كاسم علم يكثر عند المهمشين. والمهمشون -في بعض التأويلات التي تبحث عن أصولهم- ينتمون إلى حَملة أبرهة، ومملكة الأكسوم التي حكمت اليمن، وامتد حكمهم إلى أعماق الصحراء حتى مكة.
لكنَّ شوعي يضيق بتشيؤ(3) الآخرين له. يضيق بكونهِ لوحةً ثابتةَ الصفات والمعالم والدلالات. يضيق برؤيتهم له موضوعًا للفُرْجَة التي تصادر خصوصيته كإنسان بسيط يريد أن يعيش دون النظر إليه ككائن غير عقلاني منتمٍ للإنسان البدائي. فسرعان ما يتسرب من بين حدقات العيون المراقبة له؛ رافضًا أن يكون حالة فُرْجَة..
"توسل للحشود التي قبعت أمام داره أن يتركوه وشأنه. بكى. مزَّقَ كل ثيابه المميزة. أحرق الثروة الملعونة. وأخيرًا استسلم لكابوسه. حَطَّمَ زجاج النوافذ والأبواب، ودعا العالم لرؤيته مجانًا دون وسيط، وراح يمارس حياته السابقة كأنْ لا أحد هنا"(15).
«ربما يغلفني»
يأتي ضمير المتكلم «أنا»، للمؤنث متحدثًا عن الحبيب بلغة تتساءل عن قربه: «أين أنت مني؟».
ثم تستعين بلغة التشبيه؛ لتصور حالها..
"أشْبهُ وريقةَ خريفٍ هشة أسقطتها الرياح على جانب الرصيف".
ثم تسرتسل بلغة سردية شعرية..
"يغادرني الضوء"...، "لبكاء هذه الآلة الشحيحة"...، "يتسلل البرد من شِقٍّ مَا إلى جسدي"... "الآلة لا تنطق. أنتظر همسها"...، "يعتصرني القلق عليك".
"كل صباح أتفقد الجروح التي تتركها العاصفة العابثة على الأسلاك المرتعشة والمبللة حتى النخاع"(17).
هي لغة استعارية تشخصن العاصفة، الضوء، الآلة، البرد، الجسد، القلق... إلخ. بلغة كهذه يصبح هذا البوح ذاتيًّا، يعكس عمق الفقد والشوق والحب..
"تفاصيلك تحتل ذاكرتي".
ثم تبدأ بتفاصيل شعرية لتصور درجة الفقد والشوق..
"تفاصيلك تحتل ذاكرتي. أنفك الضخم، وبُقَع النمش العنيدة التي تسترخي بمودة على صفحة وجهك الأسمر، وخَصْلَة الشعر المشردة على جبينك"(18).
التفاصيل ترسم وجه حبيبها. عمق الفقد الذي يتشكل في قولها:
"كنتَ مُسَجَّى على الأرض، ملفوفًا بالبياض كملاك. لم تتوقفْ عن الابتسام بطمأنينة رغم شحوب ما زحف إلى خديك. قلت لها حينها: ما أجملك.. ما أجملك.. ياااااه... ما أجملك!"(18).
ويظل الآخر الذي يُشكِّل غيابهُ فقدًا عميقًا؛ يظل غائبًا في النص سِوَى من لغة الساردة الداخلية المتكلمة بضمير المتكلم:
"لم تُجِبْني. لم يكن هناك هاتفٌ ولا أسلاك. كنت أراكَ وألمسك ... لم تُجِبني!"(18).
تتكثف اللغة الشعرية في هذا النص بأفق كَمِّي؛ مصورةً حالة الشوق والفقد في آن..
"غُصَّةٌ قاتمة تتكدس في الزوايا على الجدران. قطع الأثاث. الغبار يُغلِّف كل شيء حتى أزهارك التي تعشق انسل بريقها فانحنت وشاخت..، وما عاد يطل من الشرفة سوى أُصُصٌ باهتة، وأغصان جفَّفَها العطش"(18).
وهو انتظار محاصر بالحدقات، والـ"عيون كثيرة تحاصرني"، والبقع السوداء التي "تثور من موطنٍ ما في قلبي، وتستوطن أسفل جفني تمتد على رُقْعَة جلدي. لا أدري إلى أين تمضي؟ ربما ستغلفني؟"(18).
تستمر القاصة من خلال ساردتها الداخلية المتكلمة بضمير المتكلم مصورةً حالة الفقد..
"يقتلني هذا الشرك. تتشابك خيوطه كشبكة عنكبوت مُحْكَمَة. أتخبط في متاهاتها اللزجة".
وتصوير المتاهات باللزوجة يعكس عُمْقَ الفقد، وشِدَّة الاحتياج؛ لهذا يكون الرجوع إلى الآلة الباردة..
"أرممها. أمسدُّ جسدَها الأسطواني الناعم. أقبلُ ثقوبها وأزرارها..، وأنتظرك"(18).
إنَّهُ الانتظار المحاصر ببرودة الآلة الأسطوانية، وزئير الرياح والعاصفة. و"الحدقات مُهدِّدَةٌ بابتلاعي". واتساع الخوف من هذا الغياب.
«سلام متكوم على ذاته»
هذا نص اتخذ لنفسه عنوانًا مركّبًا؛ بحيث أخذ التركيب صورته الشعرية من إعطاء دلالة الصمت للسلام. ومتكوم على ذاته هو سلام فيه ابتعاد عن الكلام، وعن الآخرين؛ سلامٌ موحش؛ منكفئ نحو ذاته؛ لهذا يبدأ النص بذاتية شعرية..
"ترفعني الموجات الصغيرة البطيئة"..."حفيف الأوراق الراقصة"... "تغزل خيالاتِها سرمدية ولِهَة؛ فيتشقق جلدي عن جناحين"(21)(4).
"هي لغة الذات وهي تغني، لكن "الدنيا في الأعلى أنقى وأعذب"(21).
هي مملكة من خيالاتها "القُزَحِيَّة الاشتهاءات". وبعيدًا عن وحشة الصوت يغوص الجسد. هي وحشة الصوت، وانكسارات الضوء، والنتف المنهمرة، ورائحة الحشرات الطازجة. يكون الانسحاب بعيدًا عن كل هذه العوالم الموحشة..
"أعمق بحيث يحتويني سلامٌ صامت متكومٌ على ذاته".
هي شعرية مستمرة مع انسحاب الذات نحو الصمت المتكوم. إنَّه حركة النص؛ انسحاب للذات المتدثرة باللغة الشعرية.
«دوائر»
يباشرنا هذا النص بلغته الشعرية من بدايته..
"ذابت الكلمات، واتسعت دوائر من ألق".
فمن الاستعارة في التشبيه "العميق كالبحر"(25).
هو نص سردي كتبت حكايته بلغة شعرية يذوب فيها جنس القصة بالشعر، والشعر بالقصة؛ فهو نص متداخل تزول فيه الحدود بين السرد والشعر؛ بمعنى أنه شعر سردي، أو سرد شعري.
يستمر النص بلغته الشعرية متكئًا على التشبيه كدرجة من درجات الصورة الشعرية والاستعارة المكنية.
هي أيضًا علاقة بين مشبه ومشبه به. أو ليس التشبيه بحثًا عن شيء تستعيره؛ كي يوضح رؤيتك للأشياء، وتفاصيل الحياة عمومًا؟
"كالخيوط الطفلة لضوء الصباح اتسعت دوائر من ألقٍ خجول في مدى عينيها النقيتين كالبلور. ارتعشت نبتة القلب، وامتد ارتعاشها للعروق في اتساق وتناغم أذهلها. اِتَّحَدَتْ كلُّ جزيئات كيانها؛ لتعلن هذا الفرح"(25).
هو تناوب وتحاور بين التشبيه والاستعارة تتضح من خلاله الرؤية والفرحة.. بالمقابل يكون الفرحُ مدىً متسللاً "إلى صحرائه المطفأة "، وموقظًا "ما كان مختبئًا في أعماقه من الألم"(25).
إزاء هذا الفرح يكون اقتلاع "ما كان قد اعشوشب في أرضه"(25)؛ لتضيق "دوائر الألق المتسعة في مداه، وابتدأ من جديد رحلة السكون".
إذن(5) هي حركة الحب، ونبتة القلب في مقابل "رحلة السكون"، و"لون الخضرة"، في مقابل" اقتلاع "ما كان قد اعشوشب في أرضه"؛ بين "ضاقت دوائر الألق المتسعة في مداه"...، و"فمازال الفرح النابت فيها يورق كل صباح ألقَ محبةٍ تتسعُ دوائرَهُ؛ لتملأ كل الكون"(25).
«يدان»
نص شعري تحضر فيه اليدان الكبيرتان كصانعة لأقراص الخبز؛ مختزلةً جمال المرأة كأداة إنتاج، وما بين "نظرة الحسد الممزوجة بالغيظ التي رُحْنَ يرمقنها بها، وجعلتها تشعر بغيظ عارم من النشوة، وبين صورتها لـ"فارس أنيق لا يشبه أبناء قريتها.
يقولون في القرية: إنه مهندس كبير.. دمعت بسعادة. ستكون زوجةً هذا الرجل الكبير"(27).
لكنَّ «فارعة» التي لا يرد اسمُها سوى مرةٍ واحدة في النص على لسان رجال القرية؛ لا كأنثى وإحساس وجمال متميز؛ إنما كـ"أفضل من يصنع الخبز"، تغادر خيالها الذي حلَّقت به بعيدًا عن الواقع..
"لا شك أنه سيخطفها من الآخرين كأميرة"(27). لتجد نفسها بعيدًا عن "الصدى الهائل لآهةٍ حارقة تتردد في الأعماق"(28). واقع ثلجي يخلو من تلك الآهة، وتلك الخيالات التي حلَّقت بها بعيدًا.
"تلمَّست الطرحة البيضاء الموشاة أطرافها بنقوش ذهبية، ونظرت في الوجه الثلجي الباهت جانبها؛ لم تجد ما يشبهها فيه سوى الطرحة البيضاء التي تلفها"(28).
ولأن اختيارها كان اختيارًا لكفين صانعين للخبز؛ كان سرورها كثيرًا حين "عادت كالأخريات؛ فقد تضاءلت أصابع كفيها، واختفت الندوب المشوهة من عليها؛ ليبزغ "بريق شفاف أسمر انسل من بين أناملها باحثًا عن قلب يتسع له قلب؛ واسع ككفيها السابقتين"(28).
«تماهي»
هذا نص سردي يتخذ من ضمير المخاطب فاعليةً سردية من خلال الأفعال: تقف. تخرج. تلامس. تعبث. تصرخ. ترقص. تشتعل. تصحو ... إلخ.
إنها تتلاشى؛ متماهيةً في المرآة سنوات بانتظار وعوده بالعودة إليها؛ لهذا تظل هي والمرآة ورسائله في حالة حوار مع الذات الموزعة بين المرآة، والرسائل، والسنون التي ترسم نفسها خطوطًا، وهي "تستنشق الرسائل المضمخمة بعطره ملء رئتيها"...، تعيش بذاكرة أول رسالة؛ تأسرها النشوة: "لا أحتمل البقاء هنا لحظةً واحدة.. بدون صوتك الحنون، وجهك الملائكي؛ تصبح الدنيا سوداء؛ طريق مشوش. لا أدري كيف ستمر أيامي هنا؟! من أجلك فقط أحتمل كل هذا العذاب"(29).
لكنَّ خطابَ الرسائل يبدأ بالابتعاد عنها مِنْ: "حبيبتي حصلت على عمل جيد"...، إلى: "قد أتأخر قليلاً. لا أستطيع المجازفة الآن"...؛ إلى قوله: "لن ألومَكِ لو اخترتِ شريكًا آخر". ثم تكون النهاية بالبعد والابتعاد..
"كل مستقبلي هنا ... سنوات من الكد والجهد والسهر ... كيف يمكن أن أرميها وراء ظهري؟!"(31).
لكنَّ سنين الانتظار جعلتها "تصرخ رُعْبًا من ملامحها، ومن أشباح استطالت، ورقصت حولها"(31).
هذا نص عنونته الساردة بـ«تماهي». في حين أنَّ التماهي يحتاج إلى طرفٍ آخر تتماهى معه. والساردة الداخلية هنا لم تتماهَ مع طرفٍ محسوس، لكنها تماهت مع وعود وهمية.
إنَّها تلاشت بفعل سنين الانتظار والشوق والرسائل التي رسمتْ ملامحها، وتلك الأشباح التي "استطالت ورقصت حولها"(31).
هي نصوص تجمع بين المرأة وآلامها وأشواقها المدفونة في الصندوق، وبين شعرية تستطيل بغنائيةٍ حزينة؛ مكثفةً رؤيتها أحيانًا بنصوص ومضية تعكس رؤيتها للرجل مثل نص «تحول»؛ وهو أحد نصوص متفرعة من عنوان رئيسي «تتحدر كدمعة نصوص»، لكنها دمعة فيها من النقد ما يجعل الرجل نقيضًا للغفران..
"تحوَّلتْ رجلاً؛ فقد تعبت روحها المتسامحة من الـ... غفران".
إنه التلاشي المصحوب بالألم. ففي انحدار دمعة أخرى لا يصبح في المكان سواه؛ وهي عودة إلى التلاشي فيه، لكنه تلاشٍ فيه كثير من القهر. ففي نص «عودة»:
"لم يبقَ في المكان سواه. فحين عاد تلاشت فيه".
إنَّهُ التلاشي المسبوق بحرف الجزم والنفي «لم». هذا النفي المستغرق لفعل البقاء...، لكنها في دمعة انحدار أخرى تعود للغناء الحزين. ففي "مساء" كل ليلة يجيء مسائي... دون نجوم زهرية تتخبأ في أكمام الليل، وظلال فِضِّية تغازل النافذة"(68).
لكنَّ لغةَ القاصَّة الغنائية تغادر نبرةَ الحزن حين يكون ضمير المتكلم(6) هو «الذكر»؛ ففي "بحر" "غِلالتُكَ الزرقاء تغريني باكتشاف البحر؛ بالنفاذِ إلى عمقك الرملي؛ بالمرور على طحالب يعبث الموج بخضرتها. غِلالتك الزرقاء الفخمة تغريني باقتحامك حتى آخر موجة"(73).
وحين يكون ضمير المتكلم «امرأةً» تكون الغنائية حزينة؛ كما هو الحال في نص «غيمة في وسادة».
فالغيمة هنا ليست مُحَمَّلة بالحياة، ولكن بالألم والدموع..
"حين خبأت أحلامي في الوسادة؛ باركتها الشمس؛ وزعتها الريح على سكان المدينة، لكنني حين خبأت فيها أولى دموعي؛ جَفَّتْ، ولم يلحظها أحد"(94).
لكن اللوحة القصصية الكثيفة الإضاءة سُرْعَان ما تتحول إلى نص شعري يتلاشى فيها السردي؛ لتصبح قصيدة نثر تكتفي بالتلميح لحكاية المهجرين غير الشرعيين لأوروبا من مدينة على الشاطئ الجزائري (الغزوات).
هذا ما نجده في نص «بوصلة» الذي يتكئ على أداة التشبيه «مثلما»؛ ليرسم للقارئ حكاية الحَرَّاقين، والموج؛ بتكثيف للحكاية غير مسرودة..
"مثلما تمنح أشجار الغابة في «الغزوات»، أوراقًا مسكونة بخرافات الشاطئ، تشير البوصلة «للحراقين»(7) دائمًا باتجاه الموج(75).
وفي نص «سوليفان» يكون الإحلال بين النصوص المسلفنة، وبين العباية؛ في إشارةٍ موحية للعلاقة بين النص، والمرأة، والسلفنة، والعباية..
"العباية إخراج مُسَلْفَن وأنيق لنصوص لا تجرؤ على الظهور عارية"(76).
سأكتفي بأن أختم قراءتي لبعض نصوص هذه المجموعة بنص «مومياء» الذي يتشكل سرديًا على أساس التماثلات البصرية بين
"اللفافة تبغ...، اللفافة رضيع...، اللفافة ميت...
وأنا ...
لفافة ملونة بكل مخاوف العالم بما يكفي لاقتراف الصمت"(77).
إنَّهُ الخوف المتعدد الألوان ذلك الذي يصيغ هيئة ورؤية الضمير «أنا» المنفصل رَسْمًا ومعنى؛ لهذا يكتب في سطر منفصل.
إنَّها ألوان الخوف التي تكفي؛ "لاقتراف الصمت"، لكنهُ صمتٌ حَفرَ نفسه من خلال الألم والحزن والغنائية الشعرية؛ لتصل عبر الومضات إلى اختزال الرؤية التراجيدية بومضة شعرية.
"كانت تأخذني التفاصيل"، مها صلاح، قصص ونصوص، أزمنة للنشر والتوزيع، 2010، وهي نصوص كتبت في الفترة 1999-2007م.
...............
(1) عنوان المجموعة القصصية هو «كانت تأخذني التفاصيل». وقد نُشِرَت هذه التناولة السردية للأستاذ محمد ناجي في كتابه «مدارات في النقد وتناولات في السرد»، الصادر عن دار أروقة، ط1، 2016م، ص94-102.
(2) لا تقتصر التسمية بشوعي على المهمشين. فكثير من المناطق اليمنية كتهامة وحجة كانت تسمي أبناءها بهذا الاسم. فالأسر التي كانت تفقد أبناءها في ما مضى بسبب الأوبئة والأمراض وغيرها من الآفات، كانت تسمي مواليدها بهذا الاسم القبيح والمنفر؛ دفعًا للموت بزعمهم. فالشُّوْعَة في المحكية اليمنية هو الشخص أو الشيء القبيح (وضاح).
(3) كذا وردت! ولعله يقصد: تشييء (وضاح).
(4) أخطأ الأستاذ المرحوم محمد ناجي أحمد في كتابه «مدارات نقدية وتناولات في السرد»، ص98، في الإحالة إلى رقم الصفحة؛ فجعلها صفحة (22)، والصواب أنها صفحة (21). وقد تم التصحيح بالرجوع إلى المجموعة القصصية للمرحومة الأستاذة القاصة مها صلاح، المنشورة بعنوان «كانت تأخذني التفاصيل»، والصادرة عن دار أزمنة، ط1، 2010م، ص21.
(5) وردت في النص لمحمد ناجي أحمد، ص99 «إذا»، ولا يستقيم المعنى؛ لذا تمَّ التصويب من جهتي (وضاح).
(6) لعل هذا سبق قلم من الأستاذ محمد. فما من ضمير متكلم في هذا النص المعنون بـ«بحر»؛ وإنما هو خطابٌ من الساردة لشخصٍ ما. ولعله كان الأولى بالأستاذ الناقد -رحمه الله- أن يستبدل قوله: «ففي بحر»، والاقتصار على الحرف «فـ» (وضاح).
(7) ذكرت الأستاذة المرحومة مها صلاح في مجموعتها القصصية «كانت تأخذني التفاصيل»، ص75 في الهامش في تعريف الحراقين بأنهم المهاجرين غير الشرعيين لأوروبا عبر البحر. ولعل اشتقاق هذا الاسم من الحرَّاقة: وهي -بحسب المعاجم العربية- ضرب من السفن. فيكون «الحراقون» بمعنى أصحاب الحرَّاقة المسافرون على متنها (وضاح).