كنت أقرأ لحسن بعض الشذرات والشعر في الثمانينيات، وبخاصة عندما كان النظام بصنعاء يسمح بدخول بعض الصحف والمجلات بعد مبيتها احتجازًا لأسابيع، ومن بينها "الثوري" ومجلة "الحكمة" الصادرة عن اتحاد الأدباء، والتي كانت تورد إلى مكتبة ابن عبدالجبار سلام (شيلوك) في المدخل الجنوبي لجامعة صنعاء القديمة، حينها..
وحينها فقط كنت قارئًا شبه نهم، وذلك لندرة الكتب والكتابات، ولرتابة الأقلام التي كانت تكتب بصنعاء من أقلام نكرة تسبح باسم الحاكم، ولا تسمح بالاختلاف أو بالتنوع الثقافي إلا في حدود المؤلفة قلوبهم من المطبلين، إلا أنني استطعت أن أتابع كتاباته عندما ترأس صحيفة "الوحدة" التي لم يدم فيها طويلًا، وذلك لاختلاف نمط تفكيره وقناعاته، إلا أنني عرفته أكثر وعن قرب عند سفري إلى عدن في منتصف يناير من العام 2013. وذلك عندما كنت مع المهندس محمد ناشر الذي تربطه به علاقة صداقة وثيقة، وأراد أن يفاجئني ليعرفني بشخصية استثنائية..
إذ كنا تناولنا أطراف الحديث عن شخصيته المختلفة، وهو بمثابة قاسم مشترك لما يملكه من الإمكانيات الفكرية والسمات الشخصية القادرة على التوجه في كل الاتجاهات، وبمرونة محسوبة، والذي سأسعد بلقائه على الرغم من قصر مدة إجازتي بعد خلع عفاش، التي حاولت أن أقصرها على الأهل بعد مدة طويلة، إلا أن اللقاء بحسن ولثلاث مرات متتالية كانت إحدى أهم طفراتي بالرحلة.
وقد كان اللقاء في مدينة المعلا، وبالذات في مقهى ومطعم فندق تاج أوسان القريب من الصوامع، والذي يقع في الشارع الخلفي بين شارع الميناء والشارع الرئيسي، فتم الترحيب وبدأ الحديث مكررًا ترحيبه لدماثة خلقه، ولكنه ترحيب محفوف بالتحفظ لشكلي الرسمي، وفاجأني بسؤاله غير المباشر، وبعفوية مستغربة لمضيفي من فين جبت هذا، فكان الجواب أنه ضيفي ولديه أسئلة حائرة ة يمكنك الإجابة عليها، قعدنا وباشرنا المباشر بالشاهي العدني قبل أن ينزل العشاء، وإذا به يبادرني هات ما لديك، فقلت له لقد لفت انتباهي تواجدك في عدن، فلماذا غادرت صنعاء؟ فقال لي تواجدي في عدن طبيعي، ولا تنس أنني ابن جبل شمسان عاشق البحر ومدينة عدن وجبلها وحوافيها فيها هويتي وسمات معالمي، عدن وحوافيها مكررًا هي ذاتي، فقلت له أعرف أنك ابن شمسان، ولا تنس أنك أيضًا حفيد صبران، فرمقني بحدة وخفة لا تخلو من الاندهاش والاستغراب، بل عاد مرة أخرى يحملق، أخذ نفسًا طويلًا وصاح بلهجته العدنية القحة مرة أخرى من فين جبت لنا هذا، فقيل له إن هذا جاركم وبينكم مرمى حجر سواء كان بالشيخ أو بمحيط صبران، ابتسم ابتسامة عريضة، وقال قل لي ماذا تريد أن تسأل؟
فقلت له بصراحة هل غيرت جلدك خلال هذه السنوات التي عشتها في صنعاء؟ فانفجر بجوابه، وقال خذها مني على بلاطة أنا تربيت تربية حزبية، وثقفت نفسي، وأنتمي إلى حزبي، ومنفتح على مختلف الثقافات، ولكن عملي في صنعاء وعلى أي منبر لا يخرج عن إطار وظيفة أكلف بها ولها حدود وضوابط، ولعلمك على العموم هذه الوظائف التي تقلدتها لم تغير أيًا من قناعاتي ومبادئي، ولهذا أجد غالبًا صعوبة في الاستمرار لأني ورغم مرونتي أجد من حولي أيضًا يشعرون بي بأني محاصر بالخطوط الحمراء، ولهذا أجد أن تكلفة التأقلم باهظة، أما ما يتبعه من اللااستقرار الوظيفي فهو أكثر فداحة.
استمررنا بالحديث وجدل الأفكار والسياسات حتى ارتفع صوته وقال لي أنت لا تعرف ما يدور من ألعاب ستؤدي بهذا الوطن إلى حافة الهاوية، فحاولت أن أهدئ من روعه، وقلت له لقد ذهب عفاش، إلا أنه عاودني صارخًا أن هذا لن يذهب بسلام إلا بعد سفك الدماء لأنه تربى على ذلك، وأنا أراهنك بأنه لن يترك البلد يعيش دونه وبوئام، خصوصًا بعد أن أدمن السلطة وذاق نشوة الاستئثار بالموارد، فلا صوت يعلو عليه، هل فهمت؟! مضيفًا: أعتقد أن القادم أسوأ، وكم سيكون هذا علي، مردفًا بأن اسم علي محفور لدينا بالذاكرة الشعبية القريبة والبعيدة بشغفه للدماء، والأيام بيننا.
وفي وقتها قدم المباشر إلينا ليقطع الحديث، وهممنا بالعشاء، وإذا بنا وفي لحظات محاطون بالعديد من الشخصيات الذين أبوا إلا أن يشاركونا العشاء، وإذا بصحون الموائد تتوالى، فبقيت حائرًا من هؤلاء، فأجابني مضيفي هؤلاء هم من يجذبهم حضور حسن إلى المقهى والمطعم، إنه حسن الأكثر شعبية، وصوته المجلجل المرتفع يجعلهم يدورون حول فلكه، فيتواترون بقدومهم تباعًا، ويستأنسون بحضرته ليسمعهم ما يسعون إليه بعد يوم مضنٍ، وهم من مختلف المناطق والمهن، التجار والمسؤولين ورفاقه القدامى.
فتوقف الحديث والحوار الجاد، وشعرت بأن رسمياتي كانت كاتمة على أنفاسه، وهنا بدأ فصل آخر من التعليقات والقفشات والمواقف والسير المضحكة الساخرة التي تعكس تربع حسن للموقف، والجميع في جهة وحسن في جهة أخرى مضادة تغمرها المناجمة، وكانت لحظات فارقة تضفي على التجمع فرحًا وبهجة ومحبة، كان الجميع يوجه كلامه وبلهجات مختلفة أغلبها جنوبية. والحقيقة ان حسن كان على اقتراب من الغيظ من حديثهم، فأخذ يلمحني تارة وينظر إليّ بطرف عينه ليقيس ردود أفعالي مما يثار، باعتباري غريبًا، وشعرت بأنه متحفز وعلى استعداد للتعامل معهم، إلا أن وجودي قد فرمل إطلاقه للردود المناسبة التي يودون سماعها منه، والتي لا تصمتهم فحسب، ولكنها تزيدهم استفزازًا، فقال لي هل تسمع ما يقولون ويتقولون؟ هل أرد عليهم؟ فأجبت خذ راحتك، شعرت حينها بأنه يريد أن يقول لي إن لي رغبة جامحة في الرد المبين بما تيسر العرعار، فضحكت وأردفت بأن ما ستقوله يا حسن وما يجيش في صدرك هو غير محسوب، لأنه سيكون ممسوحًا من السياق وخارج النص، وكان له ما أراد، وكان باعه هو الأطول، فلا صوت يعلو على صوت حسن الذي أحبه ويحبه الجميع.
وبهذا يمكنني القول بأن حسن كان له جانب اجتماعي إنساني نموذجي جماهيري متعدد العلاقات ونادر لا يضاهى، ولقد أدركت تمامًا عمق ثقافته وضلاعته في الطرح والتحليل واطلاعه مواكبًا لكل جديد في عالم الصحافة والكتابة، نعم قضيت ثلاث أمسيات مع كتلة المعرفة والثقافة والأدب لإنسان قمة في الاعتزاز والتواضع والبساطة، وقامة في العطاء الفكري.
كانت آخر مرة نظرت إليه من وراء الشاشة عندما كنا في فريق الدراسة الموسوعية للآثار المتبادلة للهجرة اليمنية، والتي رعاها وأقامها الأستاذ علوان الشيباني، طيب الله ثراه، والتي أسهم فيها حسن وغيره من الأساتذة والزملاء. والحقيقة المجردة هي أنني عرفته ذا بسمة دائمة وقفشات ذكية وكلمات لاذعة ذات مقصد تهكمي غالبًا وبشاشة لا توصف، إلا أنها كانت تخفي وراءها تأملًا وتفكيرًا عميقًا في المجهول مصحوبًا بالتذمر من صعوبة الحياة ولما ستذهب إليه البلاد،
ومع ذلك كان يصعب عليه أن يبوح بكل ما يجول في خاطره من هموم إلا لقلة قليلة لست واحدًا منهم، ولكني كنت أقرأ بين سطور كتاباته وجلوسي البسيط معه ومن الزملاء، تقاسيم وجهه السارح ذهنه رغم نظراته المحدقة بمن يتداول معهم حديثه، فما يلبث إلا الانتباه للكف عن الشرود الذهني الذي تقف وراءه عجلة متطلبات مكابدته للحياة، ليعود من سرحانه الصامت بالانخراط في ركب حديث للذكريات والمواقف التي عاشها كمحملة متنقلة أثقلت في سيرها كاهله بما حصده من معارف ومشاركات وأحداث مشبعة ومتشبعة تتساقط منها أجزاء ونوافل صغيرة، لكنها منيرة لتعبر عن صرخات ومواقف له في الحياة تجشمها حسن، ملهمة لنا، منها واقعيته المفرطة وصراحة ووضوح مواقفه، بخاصة كلما كانت عربة حسن تتسارع في تنوعها كأفكاره المثيرة للجدل.
الوقوف أمامك والاحتفاء بأربعينيتك هي وسام الوفاء من البسطاء على قبرك تخليها لذكرك لتعرف الأجيال وليعرف أبناء اليمن بك كعلم فريد من عموم أبناء الشعب، متميزًا في عالم الثقافة، ومثريًا الصحافة والأدب في سيرة إبداع خضتها بلا منازع.
رحم الله الفقيد النبيل حسن عبدالوارث، ابن شمسان وحفيد صبران.
فيرفاكس -فرجينيا، 22 نوفمبر 2024