من أوجه الخلاف بين العرب والغرب اعتبار الغرب أن المقاومة العربية إرهاب، وأن من يقوم بما قام به الغربيون أنفسهم عند مقاومتهم للنازية، يصنف كإرهابي، وتفرض ضده عقوبات، ويشوهه الإعلام الصهيوني الغربي، لأن تاريخ المقاومة تجمد ووقف عندهم.
في عام ١٩٧٠ أدانت الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الخامسة والعشرين، "إنكار حق تقرير المصير خصوصًا لشعبي جنوب إفريقيا وفلسطين، في قرارها رقم ٢٦٤٩، وأكدت شرعية نضال الشعوب الخاضعة للسيطرة الاستعمارية، بأية وسيلة في متناولها".
أثناء الهولوكوست انتفض يهود ضد النازيين في غيتو وارسو، ويخلد متحف الهولوكوست بأمريكا تلك الانتفاضة، ويصفها بـ"إحدى أبرز الوقائع على مدى تاريخ الشعب! اليهودي". أما مقاومتنا فهي إرهاب.
بالأمس شغلت صور مجرمَي الحرب نتنياهو وجالانت شاشات الدنيا كلها بدون استثناء، بعد إصدار محكمة الجنايات الدولية في ٢١ نوفمبر مذكرة توقيف (اعتقال) للمجرمين السالفي الذكر المتهمين بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وحرب التجويع.
العدالة تنحاز دومًا إلى من يقاوم الاحتلال. ولكن لا مفر من ذكر أن قرار المحكمة كان معيبًا لمساواته بين مجرمي حرب محتلين وبين الشهيدين هنية والسنوار، والضيف، المحتلة أرضهم، والذين من حقهم كغيرهم على مدى تاريخ الاحتلالات، مقاومة المحتل بشتى السبل.
والأصل أن دعم فلسطين يجب أن يكون شاملًا، وبدون تحفظ، حتى زوال الاحتلال.
بعد هذا اليوم التاريخي ستشعر الأغلبية الدولية الصامتة المغلوبة على أمرها، والتي صوت منها ١٥٣ دولة، في ١٢ ديسمبر ٢٠٢٣، لوقف الحرب في غزة، في الجمعية العامة للأمم المتحدة، بأن العدالة استيقظت، وتقف على قدميها، وأنها لن تتوقف عند اعتقال نتنياهو وجالانت.
الحقيقة هي أن إسرائيل كلها، باستثناءات محدودة جدًا جدًا، نتنياهو وجالانت وبن غفير وسموتريتش وجانتس ولابيد وساعر وكاتس. المحكمة وصمت إسرائيل بعار أبدي لن يمحى، ولا يستثنى منه القيادة والمعارضة والجيش والقضاء ومجالس المستوطنين والحاخامات والشرطة والمخابرات.
الاتهام في ضوء الهيمنة الصهيونية على العالم سيسجل كسابقة تاريخية، وسيظل ساري المفعول مدى حياة المتهمَين ما لم يُبرّأ بحكم من المحكمة، وهذا يعني أنه لا مفر من امتثالهما أمامها، وأن يقبلا بولايتها وباتهامها لهما كمجرمَي حرب، ويستجدياها البراءة، وإلا فإن عدم المثول يعد تهربًا من العدالة وإفلاتًا من العقاب، وإدانة صريحة لهما مهما علا صراخهما بالبراءة، ودافعت عنهما أبواق في واشنطن وفي غيرها.
لقد حققت المحكمة باتهامها ما يلي:
١. اتهام إسرائيل لأول مرة في تاريخها الدموي -الإرهابي، بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، واستخدام الحرب للتجويع.
٢. إسقاط أبدي لمزاعم المستعمِرين في تل أبيب، بأن الجيش الإسرائيلي هو الجيش الأكثر أخلاقية في العالم، وأنه خاض في غزة ولبنان حربًا عادلة كما قال جالانت في ١١ يناير ٢٠٢٤.
٣. دحض مقولة أن إسرائيل تحارب محور الشر، لأنها هي دولة الشر.
٤. أن إسرائيل ليست محصنة وفوق القانون.
٥. أن العدالة والعقاب اللذين طال تهرب الكيان المارق منهما قبل وبعد عام ١٩٤٨ (مجزرة دير ياسين -أبريل ١٩٤٨) والعدوان الثلاثي على مصر عام ١٩٥٦ وعدوان عام ١٩٦٧، وكل اعتداءاتها على غزة والضفة المحتلة ولبنان واليمن وسوريا، سيضعانها في قفص الاتهام، ليس فقط بشخص قياديين فاشيين فيها، ولكن النظام كله: الجيش، الأحزاب، الكنيست، المستعمرون في الضفة المحتلة، القضاء الفاسد الذي أجاز تعذيب السجناء والسجينات الفلسطينيين وسجن أطفال، ويتغاضى عن الانتهاكات الجسدية والجنسية في سجون الاحتلال، ويقر هدم البيوت ومصادرة الأراضي الزراعية وقلع أشجار الزيتون، ويحرق قرى، ويتساهل مع القتلة من المستوطنين.
٦. أسقطت المحكمة بالضربة القاضية مزاعم إسرائيلية وغربية مبتذلة بأن إسرائيل تدافع عن نفسها.
٧. إن اتهام المحكمة اتهام لأمريكا وكل مؤيدي حرب العدو ضد فلسطين ولبنان.
٨. الاتهام يتجاوز إسرائيل، ويسري على كل دولة استعمارية غربية زودت إسرائيل بالسلاح، وتواطأت أو بررت أو مكنتها من ارتكاب جرائمها على مدى ١٤ شهرًا في غزة وجنوب لبنان والضفة الفلسطينية المحتلة واليمن وسوريا.
٩. أسقط الاتهام مزاعم إسرائيل ومرتزقتها في الغرب الذين لا يمكن أن يصلوا إلى وظائفهم ومزاياهم بدون دعم لوبياتها الصهيونية وأموالها، بأنها الدولة الديمقراطية الوحيدة في بحر من الدكتاتوريات العربية التي مع ذلك يستميت الكيان للتطبيع معها بتوظيف أفجر ديمقراطية في التاريخ لهذا الهدف.
١٠. إن اعتداءاتها على غزة والضفة المحتلة ولبنان واليمن وسوريا، ستكون ضمن اتهامات محكمة الجنايات الدولية لو تحرك المعنيون في هذه الدول.
١١. سيكسر الاتهام ظهر إسرائيل التي ستعي، إن أرادت أن تستيقظ، بأن أمريكا ليست الضامنة لمصالحها ولوجودها، وأن ما يعينها على البقاء في المنطقة هو قبولها الطوعي بالانسحاب الكامل وغير المشروط من فلسطين ١٩٦٧ ومن الجولان السوري المحتل ومن مزارع شبعا اللبنانية.
١٢. أسقطت المحكمة بالضربة القاضية مزاعم إسرائيلية وغربية بليدة، بأن إسرائيل تدافع عن الحضارة الغربية ضد البرابرة!
١٣. نَسف الاتهام مزاعم إسرائيل البائرة بأن أي نقد لسياساتها وأي قرار دولي ينتصر لحق الفلسطينيين، هو عداء للسامية.
الأهم:
الأهم أيضًا أن مسيرة التطبيع حلم إسرائيل وفق معادلتها السامة السلام مقابل السلام، وليس السلام مقابل الأرض، ستتوقف. التطبيع أحبطته انتفاضة ٧ أكتوبر، ولن يتم بعد قرار المحكمة، لأن الدولة/ الدول المرشحة لن تطبع مع كيان وصفه ولي العهد السعودي نفسه بمناسبة انعقاد القمة العربية الإسلامية في الرياض، في نوفمبر الجاري، بمرتكب الإبادة الجماعية، واليوم بعد قرار المحكمة يجب أن يرمى ملف التطبيع، وأن يصبح قرارًا عربيًا مرجعيته الوحيدة قرارات الشرعيتين الدولية والعربية.