صنعاء 19C امطار خفيفة

«النداء» نموذج رائع لصحافة التنوير

كيف تستطيع أن تقدم دراسة شاملةومكثفة، مهنية وموضوعية، لصحيفة يومية أو أسبوعية، رسمية كانت أم حزبية، أهلية أو خاصة، تجيب على «رزمة» من علامات الاستفهام المتعددة والمتداخلة، من نوع:

- ما اسم هذه الصحيفة وترويستها وشعارها، شكلها وحجمها وعدد صفحاتها، تبويبها وإخراجها و سعرها وهيئة تحريرها وصاحبها ومؤسسها؟

وهناك اسئلة أخرى:

- ما أهداف الصحيفة وقضيتها، أسلوب وسياسة تحريرها، مضمونها وكُتَّابها؟ ما هي المعارك التي خاضتها؟ وفي أي مجال؟ وكيف؟ ثم ما هو تأثيرها وحجم انتشارها وانتظام صدورها؟ وماذا عن مكامن القوة والتفرد؟ و ماهي أوجه القصور والعيوب؟

تلكم الأسئلة قفزت إلى الخاطر بعد دقائق من مكالمة هاتفية جرت مع الزميل الاستاذ سامي غالب رئيس تحرير «النداء»، الثلاثاء قبل الماضي، والذي بادرني بالسؤال: «متى ستكتب عندنا يا أستاذ؟ (يقصد في «النداء»).

- رديت: في أي وقت إن شاء الله.

قال: بالمناسبة نحن سنصدر العدد رقم (100) من «النداء» يوم الأربعاء القادم

(2007/4/25م، أرجو أن تكتب لنا في هذه المناسبة.

قلت له: سوف أحاول، ولكن المطلوب مجلدات الصحيفة، لأن كتابة انطباعات عامة بالاعتماد على الذاكرة قد لا يفي بالغرض من المشاركة في الكتابة لصحيفة اتابعها - كغيري- أسبوعياً.

وعد الزميل سامي، بإعطائي المجلدات، وعند هذه النقطة انتهت المكالمة الهاتفية. لكن التساؤلات السالفة ظلت مفتوحة تتراقص أمامي كلما رأيت «النداء» أو تصفحت مجلدين يضمان أعداد الصحيفة (من العدد الأول وحتى العدد 85).

 

شمعة العدد الذهبي

خلال الثلاثة الأيام الماضية ذهبت أستعرض صفحات الجريدة، كي أحدد موضوعاً بعينه يكون مناسباً لهذه التناولة والوفاء بوعدي للزميل سامي غالب. وبعد تفكير اخترت مجموعة أعداد صادرة في فترات مختلفة(*) لدراستها أو استعراضها كنموذج لرسم صورة من قريب لصحيفة محترمة جديرة باقتنائها وقضاء أيام لتفحص أعدادها من جديد.

وهكذا، وقبل توجيه التهنئة الحارة لأسرة «النداء» بقيادة عميدها الزميل سامي غالب، بالاحتفال بإشعال الشمعة آل(100)، العدد الذهبي لصحيفة شابة لكنها عاقلة ورصينة ومنفتحة وثرية. وأستطيع القول وبدون تردد أن «النداء» تمثل نموذجاً رائعاً لكيفية تأسيس صحافة جادة تحتل مكانها المتقدم في ذاكرة تاريخ صاحبة الجلالة، صحافة مهمتها التنوير وليس التزوير.. تحترم عقل القارئ، ولا تضلل الرأي العام، تقود حواراً وطنياً، لا تشعل الحرائق والأزمات، صحافة تقدم «التحري» في الخبر على «السبق الصحفي».

 

لأنها نداء للناس

ولأنها «نداء للناس» أولاً فهي جزء مضيء من صحافتنا اليمنية، يحرص القارئ على متابعتها كل أربعاء. ولأنها كذلك -ثانياً- فهي جديرة بأن يقدم الباحث تجربتها لوضعها أمام الدارسين والصحفيين والسياسيين.

بعد هذا الاستطراد يعود السؤال الكبير: إلى أي مدى نجحت «النداء» في تحقيق الخطوط العريضة والآمال الكبيرة التي رُسمت لها من قبل أصحابها، والتطلعات التي استقبلت بها من قبل الوسط الصحفي والسياسي في الساحة اليمنية، الذي تلقاها بترحاب واعجاب؟

للإجابة على تلك التساؤلات سأحاول تقديم ما خرجت به بعد استعراض وتحليل «عينة عمدية» من أعدادها، وذلك في النقاط التالية:

أولاً: صدر العدد الأول من «النداء» في صنعاء يوم الأربعاء

2004/10/13م  (لم يظهر التاريخ الهجري) في 12 صفحة مقاس( 37x28) ( وسعرها (30 ريالاً) .ثم رفع عدد صفحاتها إلى(16) صفحة من ذات الحجم بدءاً من العدد رقم (60) وتاريخه 25 جمادى الأولى 1427ه‍، الموافق 21 يونيو 2005م ،أما سعرها فقد ظل ثابتاً حتى رفع إلى (40) ريالاً مع العدد رقم (68) الصادر في 22 رجب 1427ه‍، الموافق 6 أغسطس 2006م.

 

احترام عقل القارئ

ثانياً: وضعت «النداء» خطاً واضحاً التزمت به طوال مشوارها، يقوم على احترام عقل القارئ والتمسك بأخلاق المهنة، وهذا المسار نجده في افتتاحية العدد الأول بعنوان «هذي نداء للناس»، ومما قاله رئيس التحرير: «طموحنا لا يحد في أن يكون نداؤنا للناس رصيناً يحترم عقولهم لا نخبوياً يتعالى على همومهم ولا شعبوياً يتملق عواطفهم ويدغدغ غرائزهم، لا طنطنة هو ولا تأتأة، لكنها نداء جديد على ما يقول الليبراليون -إن كان لا مناص من محمولات- نداء للناس ومن أجلهم».

ثالثاً: «النداء» أكدت التزامها الصَّارم بالقيم والقواعد الأخلاقية لمهنة الصحافة، فابتعدت عن نشر المواد التي تخدش الحياء أو تستخدم ألفاظاً غير مهذبة. ويظهر هذا التمسك أو عنصر الالتزام المهني في أن أسرة «النداء» اعتمدت «ميثاق شرف صحفي» خاصاً بالعاملين في الصحيفة، احتوى على (18) بنداً، اكدت على تكريس الخط المهني والسياسة التحريرية التي تركز على الموضوعية والنزاهة وإطلاع الرأي العام على المعلومات دون حجبها وعدم فبركة الأخبار أو تلوينها أو نشر مواد تحرِّض على زملاء المهنة (العدد 70).

 

الدفاع عن الصحافة

رابعاً: ولأن «النداء» تحرص منذ ولادتها وحتى اللحظة الراهنة، على محاولة تقديم صحافة جادة وحصيفة، فقد دافعت عن قدسية الكلمة واحترام الرأي والرأي الآخر. فطالبت بتخليص المهنة من أولئك الذين تسللوا إلى بلاط صاحبة الجلالة، وأساءوا إليها وجعلوا منها جسراً للإرتزاق والنفاق والتسلق.

وفي هذا السبيل كرست «النداء» العديد من صفحاتها لتناول ما أصاب الصحافة من تجاوزات وانحرافات «أقلام» اتخذت من الصحف منصات لنفث سموم الحقد والكراهية والفتنة والتجريم والشتم والتخوين والتشكيك.

ناقش كُتاب «النداء» حال الصحافة اليمنية الرسمية والحزبية والأهلية أو الخاصة، من مختلف جوانبها المتصلة بالبنى التحتية والامكانيات المادية والكادر البشري والتأهيل  والتدريب ومرتبات الصحفيين والفنيين، إلى السياسة التحريرية والتقاليد المهنية، وكيفية احترام حقوق الزمالة والحريات الشخصية والحياة العامة.

وفي هذا الإطار أفردت «النداء» صفحاتها لمناقشة مشروع قانون الصحافة أو تعديله، والمادة الخاصة بالعقوبات بما فيها إلغاء حبس الصحفيين. وفي المقابل استعرضت أوضاع نقابة الصحفيين اليمنيين، وحثت زملاء المهنة على جعل هذه المؤسسة مظلة لخدمة منتسبيها وتبني قضاياهم والمساهمة في ايجاد الحلول لها، بعيداً عن التوظيف الحزبي والمكايدات السياسية التي أضرت بالعمل الصحفي والنقابي أيضاً.

 

منبر مفتوح

خامساً: لم تكن «النداء» صحيفة مغلقة، بل فتحت صفحاتها لجميع الآراء، وكُتَّابها يمثلون مختلف الفئات والأعمار والتخصصات..؛ فهناك الصحفي، والسياسي ،وعالم الدين، ورجل الاقتصاد، والمثقف و الأستاذ الجامعي والمؤرخ.

 كما احتضنت الجريدة الأقلام النسائية؛ إيماناً منها بأن المرأة هي الأقدر على عرض قضاياها وهمومها و تطلعاتها؛ وتشخيص أوجاعها؛ ووضع الحلول الناجعة لها.

 

هموم وطنية

سادساً: خاض كُتَّاب «النداء» في العديد من القضايا التي تهم المجتمع، فناقشوا كيفية ترسيخ الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة، وواقع العمل الحزبي، وموقف المعارضة، وكافة المسائل الوطنية منها الاصلاحات الاقتصادية والمالية والإدارية، وحماية الوحدة اليمنية، والانتخابات الرئاسية والمحلية. وقدمت قراءة لبرامج المرشحين المتنافسين على منصب «رئيس الجمهورية». وعنت كذلك بدور منظمات المجتمع المدني في المشاركة الشعبية، وتحويل هذه المؤسسات الى وسيلة فاعلة للتنمية. وسلطت "النداء" الأضواء على موقف «الحزب الحاكم» (المؤتمر الشعبي العام) وأحزاب اللقاء المشترك، من مصداقية مشاركة المرأة اليمنية كمرشحة وناخبة في الانتخابات التي جرت في 20 سبتمبر 2006م.

وتناولت «النداء» في معظم أعدادها - موضوع العرض- الأوضاع المعيشية والحياتية للمواطنين كارتفاع أسعار السلع الغذائية بصورة مقلقة ،و وزيادة الضرائب ورسوم الجمارك؛ وتفاقم ظاهرة الفقر واتساع رقعة البطالة؛ خاصة في صفوف الشباب، وعالجت الصحيفة مشكلة تدني مرتبات الموظفين، وما يتصل باستراتيجية الاجور، وقضية تهريب أطفال اليمن إلى السعودية وأخطار هذه الظاهرة. إلى جانب معالجة مشكلة تشغيل أو عمالة الأطفال . وكان للمعاقين على صفحات «النداء» نصيب من الاهتمام، استعرضت أوضاعهم وهمومهم، وطالبت بضرورة دمج هذه الشريحة في المجتمع.

وناقشت -ايضاً- واقع الاستثمار في اليمن والمعوقات التشريعية، وكيفية تهيئة المناخات وفي المقدمة توفر البيئة الآمنة لجذب الاستثمارات اليمنية والاجنبية إلى البلاد.

وأولت «النداء» أهمية لافتة لمناقشة استشراء الفساد ونهب المال العام، وأسباب هذه «الأزمة» وآثارها الخطيرة في تأخر المجتمع، والإضرار بعملية التنمية، والتدهور البيئي، واستنزاف المياه وانتشار الأمية، وتدني مستوى التعليم في المدارس والجامعات، وظاهرة حمل السلاح في المدن، وعدم احترام القوانين.

 

وللثقافة نصيب

وإذا انتقلنا إلى مجال آخر وأعني به الفنون الثقافية.. نجد صفحات طوالاً تحتوي على إضاءة «النداء» لمختلف جوانب الحراك الثقافي وتنوعه وواقعه، وتطلعاته، وهمومه، ومن أمثلة ذلك: لم تكتف الصحيفة بنشر خبر قصير عن اصدار كتاب تاريخي او سياسي، أو رواية أو قصة، أو إصدار شعري جديد؛ وإنما ذهب محرروها و المساهمون في الكتابة فيها عرض الكتب وابرز جوانبها، ونقدها أو إيضاح بعض محتوياتها. وهذه خدمة تمكن القارئ من التعرف على موضوعات الكتب من خلال تنظيم قراءة لمحتوياتها.

كما نشرت «النداء» عشرات القصائد لكبار الشعراء اليمنيين واهتمت بإنتاج الشباب، وعنيت بالفنون التشكيلية اليمنية، فناقشت المشكلات والهموم التي يعاني منها الفنانون.

وخصصت «النداء» مساحة لا بأس بها لواقع المسرح ومعاناة الفنانين اليمنيين، فأبرزت بعض النماذج الناجحة وطالبت الدولة بالعناية بالفنانين والارتقاء بمستواهم ومعالجة مشاكلهم.

وألقت الصحيفة بعض الأضواء الكاشفة على ما تتعرض له الآثار اليمنية من نهب وإهمال، ودعت إلى حماية الآثار باعتبارها ذاكرة الأمة وتاريخها وحضارتها.

 

قضايا قومية

سابعاً: أعطت «النداء» الشؤون الخارجية مساحة على صفحاتها، فقدم كُتَّابها عبر المقالات والتقارير العديد من الآراء التي تابعت التطورات والأحداث العربية والاقليمية والدولية، فتناولت الحرب الاهلية المستعرة في الصومال، منذ سقوط نظام سياد بري في منتصف يناير 1991م ؛ وحتى اللحظة الراهنة، وأسباب استمرار هذه الحرب التي مزقت الصومال ، كالنزاع بين القبائل والعشائر ؛ والسلطة والنفوذ، والتدخل الاثيوبي والارتيري في مسار الحرب، من خلال دعم فصيل ضد آخر، والاطماع الأمريكية والأوروبية في القرن الافريقي، وغياب العرب عن هذه المنطقة.

قضية فلسطين ظلت هي الأخرى حاضرة بين عدد وآخر. فتابعت الأوضاع المتردية في الضفة الغربية وقطاع غزة، والعمليات الفدائية ضد الاحتلال، وانتفاضة الاقصى، وفوز  حركة"حماس" في الانتخابات التشريعية الفلسطينية؛ والحصار العسكري والاقتصادي الإسرائيلي، وتوقف عملية التسوية، إلى الإقتتال الداخلي بين "حماس" و"فتح" في قطاع غزة!!.

وتابعت -أيضاً- المحاولات الصهيونية المستمرة للحفريات في المسجد الأقصى ؛ واستمرار تهديد القدس، وبناء المستعمرات الإسرائيلية، والجدار الصهيوني العنصري،إلى المواقف العربية حول القضية الفلسطينية المعلنة في قمتي الجزائر في 2001م والخرطوم 2006م.

وتناولت مقالات وتحليلات «النداء» تطورات الاحتلال الأمريكي للعراق، وأعمال القتل والتدمير لكل مناحي الحياة. وتحدثت عن الأخطار المحيقة ببلاد الرافدين ؛جراء استشراء المذابح واشعال الفتنة المذهبية والطائفية بين أبناء الوطن الموحد.

وسلطت «النداء» في بعض أعدادها الضوء على اعمال المقاومة المشروعة ضد الاحتلال، واعدام الرئيس صدام حسين يوم عيد الأضحى المبارك ،وابعاد التدخلات الاقليمية.

وتابعت «النداء» باهتمام أبعاد وأخطار الحرب الٱسرائيلية على لبنان في يوليو 2006م، وسلطت الأضواء على صمود الشعب اللبناني، والتفافه حول مقاومة حزب الله، وإلحاقة الهزيمة بالاحتلال الاسرائيلي، ثم اشتعال الفتنة الطائفية بين الفرقاء في لبنان على خلفية التباين في الآراء حول تشكيل المحكمة الدولية ذات الطابع الدولي للتحقيق في جريمة اغتيال رفيق الحريري رئيس وزراء لبنان الأسبق.

 

الخلاصة

وبعد، أكتفي بهذا القدر الذي يؤكد نجاح الصحيفة في أداء دورها مع الإشارة في نهاية هذا العرض التحليلي إلى أهمية أن تواصل «النداء» تمسكها بنهجها المهني ودورها التنويري، مع إعادة النظر في تبويب الصحيفة وإعطاء مساحة أكبر للتحقيقات الصحفية الميدانية، وتناول هموم الريف، ومعالجة آثار النمو السكان المتزايد، وبلورة الوعي بأهمية تنظيم الاسرة.

  • نشر في  2007-04-25

(*) راجع الأعداد التالية:

_____

(*) راجع الأعداد التالية:

(1) 13/10/2004م، 

(2) 23/3/2005م، 

(6) 20/4/2005، م

(10) 18/5/2005م، 

(12) 1/6/2005م، 

(29) 12/10/2005، 

(34) 7/12/2005م

(41)8/2/2006م، 

(49) 5/4/2006م، 

(26) 29/5/2006م، 

(60) 21/6/2006، 

(64) 19/4/2006م، 

(68) 16/8/2006م، 

(70) 30/8/2006م، 

(84) 20/2/2006م.

 

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً