صنعاء 19C امطار خفيفة

الأرض لا تَنْسَ والحرية لا تموت

في زمنٍ لا ينتمي إلينا، زمنٍ تحوَّل فيه الهواء إلى صفقات، والماء إلى مصالح، والأرض إلى مجرد ورقة تُمرر بين أيدي العابثين، يظهرون. المتصهينون والمتأمركون، أولئك الذين باعوا ظلالهم مقابل وعدٍ بالسلام أو الحرية المستعارة، لا يعرفون أن الأرض لا تنسى، وأن الهواء يفضح السرائر. 

 
هؤلاء المتصهينون، من باعوا زيتون فلسطين، وأقنعوا أنفسهم أن التاريخ يمكن أن يُعاد كتابته بحبرٍ آخر، أن الوجع يمكن أن ينسى. يتحدثون عن "السلام" كما لو كان حلماً يمكن أن يُشترى بالذهب أو التنازلات. لكنهم لا يدركون أن السلام ليس اتفاقية تُوقع بين الأيدي المرتجفة، بل هو حقٌ يُولد من أمعاء الأرض، من صرخة طفل فلسطيني يسير بين الأنقاض ويبحث عن سماءٍ غير مثقلة بالجدران. هم، هؤلاء المتصهينون، نسوا أن الشجر لا ينسى جذوره، وأنه مهما علت الأيدي لتقطف ثماره، فإن الجذع يظل شاهداً على من سكنه ومن مرَّ عليه. 
 
وفي زاوية أخرى من المشهد المكسور، يقف المتأمركون، أولئك الذين فقدوا بوصلة الشرق في عيونهم. يهرولون خلف أحلامٍ مستوردة، يظنون أن أمريكا هي الإجابة على كل سؤال لم يجرؤوا على طرحه. يتحدثون عن الحرية كما لو كانت سلعة تُباع في أسواق النخاسة، يتغنون بالديمقراطية المستوردة كما لو كانت أغنية تُعيد الحياة لمن فقد صوته. لكنهم نسوا أن الحرية لا تُعطى، بل تُنزع انتزاعاً. ونسوا أن الهوية ليست قناعاً يمكن تغييره مع تغير الرياح. 
 

المتأمركون لا يرون في الغرب إلا وعوداً براقة، يظنون أن تبنيهم لثقافة غريبة سيمنحهم مكاناً في ركب الحضارة. لكنهم غفلوا عن حقيقة أن الحضارة ليست طلاءً على جدرانٍ قديمة، بل هي جذر يمتد في عمق الروح، وهي نهر يجري في ذاكرة الأرض. لقد نسوا أن الحضارة تبدأ حين تتوقف عن اللهاث خلف سراب الغرب، وتبدأ ببناء الجسور بين ما كان وما سيكون، بين الحلم الذي لا يموت والواقع الذي نحمله في أيدينا. 

 
في هذا المشهد، يظل المتصهينون و المتأمركون كظلالٍ عابرة، أصواتهم خافتة أمام ضجيج التاريخ. لا يدركون أن الأرض أقوى من أي اتفاقية، وأن الهوية أعمق من أي تغيير طارئ. فلسطين، تلك الحكاية التي تتحدى النسيان، ترفض أن تُمحى أو تُختزل في حدودٍ مرسومة على الخرائط. و الحرية، تلك الكلمة التي يلهث خلفها المتأمركون، لن تُمنح لهم على طبقٍ من ذهب، بل هي كالشمس، تشرق فقط لمن يؤمن بها. 
 
وفي النهاية، ستظل هذه الأمة، بجرحها وأملها، أكبر من كل محاولات الطمس. ستظل تقاوم بأغانيها، بدبكة أطفالها، بزيتونها الذي يتحدى الرياح. هؤلاء المتصهينون والمتأمركون سيمرون كغبارٍ في كتب التاريخ، لن يُذكروا إلا كأصواتٍ نشاز في سيمفونية "البلاد". أما من آمنوا بالأرض وبالحرية، فإنهم سيبقون، لأن الأرض لا تنسى، والحرية لا تموت. 
 
وفي المساء، حين تهدأ العواصف، ستظل فلسطين تنام تحت سماءها، شامخة كجبلٍ يرفض الانحناء، وستظل العروبة تكتب قصتها في وجوهٍ لا تخون.
 
 
* شاعر من فلسطين

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً