السياسة ليست كل شيء في الحياة، فهي جزء بسيط في حياة الواحد، ومع مرور الوقت تصبح أتفه التصاق بالمرء.
وعندما يتفشى -بين الناس- في المجتمع الاهتمام بالسياسة فقط، حينها تتهاوى الثقافة وتنحسر، فالاهتمام بالسياسة من قبل الناس يكون دائمًا على حساب ذواتهم الثقافية؛ حيث تتقزم فنون ذواتهم الثقافية (مسرح، موسيقى، شعر… الخ).
وفي المجتمع اليمني منذ 1990 تحديدًا، تفشى الاهتمام بالسياسة لدى الناس، حتى انهارت مظاهر الثقافة (حداثية كانت أو تقليدية)، بل تعدى الاهتمام بالسياسة إلى المنتديات الثقافية المهتمة بفنون الثقافة المختلفة، أما المجالس العامة فلم يعد لها من اهتمام غير الحديث عن السياسة وصراعاتها.
ومع انهيار النظام السياسي للدولة -الذي أبانته الحرب- طفح على السطح خطاب ثقافي هوياتي، فتلاشى على إثره ما تبقى من مظاهر مستحية مهتمة بفنون الثقافة.
وفي الوقت نفسه، برز التغني والتذكر للثقافة الوطنية، سياسية كانت أو فنية، على المنصات الثقافية أو على منصات التواصل الاجتماعي؛ بخاصة من قبل المثقف الإعلامي؛ كخطاب في مواجهه الانهيار الثقافي، ويهدف أيضًا إلى المحافظة على قيم الثقافة الوطنية اليمنية.
ولكن، ملاحظ على هذه المحاولة، أنها سياسية؛ مقاومة تفتيت الكيان السياسي لليمن (الدولة) وفي الوقت نفسه موجهة نحو تيار سياسي (التيار الإسلامي).
أي أن هذه المحاولة الثقافية -على ما تبدو- لاتزال خاضعة لمنطق صراع الجماعات السياسية، ولا تتجاوز غائيته؛ لذا تبدو ساذجة، لأن الوحدة والانفصال هاجسها الغائي..
لذلك التذكير والتغني -رغم اهميته- له هاجس غائي من أجل كيان فقط (اليمن وبس أو الانفصال وبس)، حيث يغفل هذا التذكر المتغني بالثقافة الوطنية، أن الثقافة (ثقافة الذات) تعددية، وأن السياسي تعددي بطبعه.
بل عل هذا الخطاب المتغني غافل أن الوحدة تعددية، فما الحال بلغة وثقافة الذات وموسيقاها، حيث صميمها الواحد تعددي.
يقطن التعدد لغات البشر وثقافاتهم، بل اللغة الواحدة المشتركة لأي قوم تعددية، فلغة ثقافة الذات (العربية) ليست متعددة وحسب، بل تسكنها لغات أخرى (الكردية، الأمازيغية مثلًا).
وكذلك هو حال اللغة العربية اليمنية وثقافتها، فالأصوات داخل لغتها الثقافية متعددة، وكذلك تسكنها لغات أخرى (المهرية والسقطرية).
فكيف سمع ويسمع اليمنيون أصوات بعضهم البعض؟ أي كيف يسمع الواحد اختلاف أصوات لغته المتعددة في انسجام واحد؟
وكيف يجرى اللقاء الأول مع المختلف داخل اللغة الواحدة؟ ومتى يصبح المخالف داخل اللغة آخر داخل الذات اللغوية؟
هذه التساؤلات؛ منتجة ومدغمة -في الوقت نفسه- في اللغة الواحدة. هنا ليست المناطق إلا إشارات لغوية تأتي من داخل اللسان الواحد؛ أي أنها إشارات تعددية داخل اللسان الواحد.
هذه تساؤلات يقل الاهتمام بها، فمثلًا خطاب التذكير والتغني بالوطنية لا يهتم بها إن لم يحم حولها تذكره.
التغني بذاكرة الثقافة الوطنية من أجل خطاب سياسي فقط لا يكفي، حتى ولو كان زعيقًا، فالزعيق هنا ليس تذكيرًا، وإنما دلالة على أننا أصبحنا فاقدين ذواتنا.
التساؤلات أعلاه، هي تساؤلات الترجمة، إذ الترجمة سياسية بامتياز، فالترجمة تعددية أيضًا (النص الواحد تتعدد ترجمته)، ففيها إحالة دائمة وجديدة للنص، فالترجمة من يجدد ويطور لغة الذات وثقافتها.
والكاتب، كما الفنان، وكما السياسي، تعددي داخل لغته، ولا يعمل إلا مترجمًا حتى وهو يكتب بلغته؛ حيث تصنع الترجمة شكلًا منسجمًا وواحدًا داخل كل ذات ثقافية.
هنا للتوضيح فقط -فائدة التذكر- أورد مثلين لفنانين من حقلين مختلفين ومنسجمين؛ علهما يذكران أصحاب التغني بذاكرة الثقافة الوطنية؛ حيث استطاعا ترجمة ثقافة تعددية الذات اليمنية في تجانس وانسجام، والمقصودان هنا؛ ترجمة محمد أحمد نعمان كسياسي فنان، ومحمد مرشد ناجي كفنان سياسي، فالأول وعى تعدد واختلاف ثقافته اليمنية كلغة تعددية؛ إذ تفهم أن على السياسي الإصغاء إلى أصوات أناس لغة مجتمعه. وهذا واضح في إحدى رسائله "نحن محتاجون لمتحدث من تهامة وآخر من تعز وثالث من المشرق ورابع من صنعاء... حتى تكون الكلمات حية وفعالة" (منقول بتصرف). ولعل مجلة “أصوات” الثقافية التي رأس تحريرها الشاعر عبدالودود سيف، كانت واقعة تحت هذا الأثر.
فالإصغاء للصوت المختلف داخل اللغة لا يظهر إمكانية اللغة وحسب، بل يحافظ المختلف على خاصية ذاته بلا تمركز حول الاختلاف. وهنا تكمن قدرة ترجمة السياسي لتعدده الكامن داخل لغته الثقافية سياسيًا؛ فبها يعزز وحدة بلده السياسي.
أما المرشدي، فألحان موسيقاه ترجمة كشفت تعدد وغنى الثقافة اللغوية والموسيقية للثقافة اليمنية. فاللحن الموسيقي يترجم الكلام (الشعر)، أي ترجمة أخرى لموسيقى الشعر، إذ تغدو الترجمة اللحنية للفنان الموسيقي بمثابة نجم يحاكي كل القلوب.
وهذه القدرة الفنية للموسيقى واضحة في لحن المرشدي لكلمات قصيدة عبدالله غدوة "واصياد".. إذ المرشدي بهذا اللحن يقتحم نبرة لغوية أخرى، مبدعًا داخل لغته الثقافية الموسيقية، فالوعي الفني هو إبداع اللاوعي.
السؤال المهم هنا، والذي يخص به أصحاب التذكر والتغني بالثقافة الوطنية (سواء كانوا من أصحاب اليمن وبس أو الانفصال وبس)، هل يكفي اللغة المهرية أن تبث لها أغنية على قناة إعلامية أو تسمى قناة إعلامية تحمل اسم المهرية؟
اللغة ليست مكان، وإنما وجود، واللغة المهرية وجود، وليست جهة مكان.. واليمن وجود، ولا يمكن إعادة انسجام ثقافة الذات اليمنية دون القدرة على اكتشاف اللغة القديمة للذات داخل لغتنا الحالية.
فالكاتب كما السياسي مزدوج اللغة، يفكر ويكتب بلغة أجنبية موجودة داخل لغة وثقافة ذاته اللغوية.
والوطنية اليمنية لغة أجنبية لا يمكن بلوغها دون أن تصبح اللغة المهرية -إن لم تكن الأولى- لغة التعليم الثانية في التعليم العام والجامعي.
وحده تعلم اللغة المهرية يحقق انسجام الوحدة أو الانفصال، وكذلك يعلم المواطنة؛ أما التعصب "الهووي" لأية ثقافة فيلغي طبيعة الهوية (الانفتاح والتعدد).