في بلاد المغارب واليمن، وبالأخص في عدن وحضرموت، كان يُطلق على كبار المطربين لقب "شيوخ". هؤلاء الشيوخ كانوا يُعتبرون المراجع الأساسية في التلحين والأداء الغنائي. اشتهرت مدن مثل عدن والمُكلَّا والشحر كحاضنات للفن الغنائي، ومُنح فنانوها لقب "شيوخ". وفي هذه المدن نشأ رواد الغناء والطرب البارزون مثل الشيخ القعطبي وباشراحيل ومحمد جمعة خان.
أقدّر أي شيخ قد غنى أغنية في حياته، أو كان يستمع إلى الموسيقى، أو سمح لأبنائه بالغناء وشجعهم على ذلك. في الحقيقة، أؤمن أن هذا المعمم هو شيخ حقيقي. ولم يخطئ أهل عدن وحضرموت وإخوتنا في بلاد المغارب، حين أطلقوا على هؤلاء المغنين لقب "شيوخ".
فالشيخ الحقيقي، في نظري، هو الذي يستعذب الموسيقى ويعترف بقيمتها الروحية والثقافية، ويرى فيها وسيلة للتعبير عن المشاعر الإنسانية والتقرب إلى الله بطرق غير تقليدية. الموسيقى ليست مجرد أصوات ونغمات؛ إنها لغة عالمية تخاطب الروح، وتتجاوز الحواجز الثقافية والدينية. شيخٌ يحتضن الموسيقى يعترف بأن الدين ليس فقط شعائر وطقوسًا، بل هو أيضًا فهم عميق للروح الإنسانية، وتقدير لجمال الحياة بكل أبعادها. الموسيقى يمكن أن تكون وسيلة للتأمل، للفرح، للحزن، ولإيجاد السلام الداخلي.
لذلك، الشيخ الذي يقدر الموسيقى ويشجع عليها، هو في نظري رمز للتوازن بين التعاليم الدينية والتقدير الثقافي. فهو يفتح بابًا للتسامح والتفاهم، ويعزز الفكرة بأن الدين يمكن أن يتعايش بانسجام مع الفنون، بل ويحتضنها كجزء من التجربة الإنسانية الكاملة.
تحية إجلال ورحمة لروح الشيخ إبراهيم البلتاجي، الرجل الذي كان له الفضل العظيم في إهدائنا صوتًا استثنائيًا وخالدًا في تاريخ الفن العربي. فقد أسهم الشيخ إبراهيم، بكل حب وتفانٍ، في تنشئة وتطوير موهبة ابنته، سيدة الغناء العربي أم كلثوم. هذا الإرث الفني العظيم الذي تركه لنا الشيخ إبراهيم من خلال أم كلثوم، يشهد على أهمية دور الأهل في اكتشاف ورعاية المواهب، وعلى الأثر الباقي للأعمال الفنية التي تحمل في طياتها روحًا وإبداعًا لا يموت.