صنعاء 19C امطار خفيفة

كلمات وخواطر في المحكية اليمنية وأصولها في الفصحى

  لما كان الدكتور أبو بكر السقاف أستاذ الفلسفة بجامعة صنعاء -رحمه الله- ينتقد النظام، ويعري ممارساته لم يدخر النظام وُسعًا بالاعتداء عليه بالضرب أكثر من مرة؛ حتى تضررت إحدى عينيه، فَسُئِلَ الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر عن ذلك: فقال: من كتب لُبِج!

 
ذكرت هذا لأن الدكتور السقاف لم يسلم من اللبج حيًا، ولاميتًا، فقد كتب عنه أحدهم مقالاً ظانًا أنه ينال منه، أو ينتقص من علمه وتاريخه النضالي؛ فكان كمن يحاول أن يتناول النجم، أو يساجل البحر؛ ولا سبب لذلك إلا العداوات الحزبية، والضغائن المجانية.
 
ويقال: إن القاضي محمد السياغي -رحمه الله- سُئِل عن معنى هذا الحديث: (إذا هاجت الفتن فعليكم باليمن)، فأجاب على سبيل الدُّعابة: يعني بقوله: عليكم باليمن: البجوهم؛ أي اضربوهم.
 
وهذا للأسف ما تم علينا نحن اليمنيين؛ فلا زلنا نلبج من الداخل ومن الخارج.
 
لنرى الآن أصل هذه الكلمة في المعجم العربي: جاء في «الصحاح»: لبج به الأرض: ضرب به الأرض. ولبجه بالعصا لَبَجَات.
 
ومن هذا المعجم استفاد الشيخ عبد الله والسلطات العربية هذه المفردة تجاه شعوبهم ومفكريهم والمعارضين منهم وأصحاب الرأي.
 

يشيع في صنعاء وفي تعز استخدام الفعل (عَرطَ) للرجل يأكل مال رجل آخر بطريقة غير قانونية. وقد يقول الصنعاني: "يشتي يِعرَطِهْ"؛ أي يريد أن ينهب ماله. وهذا مجاز، وحقيقة الفعل هو ما ذكره الأستاذان: أحمد شرف الحكيمي، ومطهر الإرياني.

 
قال الأستاذ مطهر الإرياني في «المعجم اليمني في اللغة والتراث»: "العرط في الأكل هو إمساك الشيء باليدين، وأكله بمقدمة الفم والأسنان الأمامية. وخير ما يمثله: عرطك لسنبلة أو كوز أو عرنوس الذرة الشامية على ذلك النحو المعروف.
 
ومن المجاز: حصول الإنسان على عرطة أي على رزق عابر من حيث لم يكن يحتسب".
 
وقال الأستاذ أحمد شرف الحكيمي في كتابه «معجم في لهجة المعافر وتراثها»: "عَرَطَ الشيء يعرطه إذا أمسك بالشيء المراد أكله باليد أو باليدين كاللحم غير الناضج، وأخذ ينهشه بالأسنان الأمامية قبل مضعه يقو[ل] عبد الكريم الرازحي:
 
وصلوا الرُّباح، وزلَّجُوا قِرْنَاطهْ
 
هم يقرطوا، ويِعْرَطُوا عِراطَهْ
 
والمصدر: عَرْط، والعرطة" المرة الواحدة".
 
ولم يبعد الفعل في الفصحى عن هذا. فقد جاء في «تاج العروس»: " عَرَطتْ الناقة الشجر تعرطها عرطًا: ...أكلتها حتى ذهبت أسنانها...، وعرط فلانٌ عِرضه: إذا اقترضه بالغيبة كاعترطه، وهو مجاز".  
 
قد يتعارك اثنان في تهامة فيلحق أحدهما بالآخر ضررًا بليغًا في عنقه، فيعبر التهامي عن ذلك فيقول: وَقَصْ لَهْ ذِمْرهْ.
 
فما يقول المعجم العربي بشأن هاتين المفردتين في هذه الجملة؟
 
جاء في «الصحاح»: وقصتٌ عنقه: أقصها وقصًا أي كسرتها.
 
أما الذِمر، فقد ذكر صاحب «الصحاح»: أنه الشجاع. وذَمَرْته: حثثته. ثم ذكر صاحب الصحاح: الذِمار، فقال: ما وراء الرجل مما يحق عليه أن يحميه. ومنه قيل: حامي الذمار.
 
والتذمير: أن يدخل الرجل يده في حياء الناقة لينظر أذكر جنينها أم أنثى.
 
وقال الزمخشري في «أساس البلاغة»: وذَمَر الراعي السليل (السليل: ولد الناقة ساعة وضعه قبل أن يُعلم أذكرٌ هو أم أنثى).
 
ذَمرَ الراعي السليل: مسّ فهقته (الفهقة: مغرز الرأس في العنق)، والتي يعبر عنها التهامي بالذِمر.
 
والمُذَمَّر: الكاهل والعنق وما حوله إلى الذِفْرَى. (الذفرى من القفا الموضع الذي يعرق منه البعير خلف الأذن)؛ وهو الذي يذمره المذمر.
 
فمس الراعي لمغرز الرأس من عنق ولد الناقة يقال له ذَمْر وتذمير؛ ومن هنا جاء كلمة ذِمر بمعنى العنق، وهذه هي الأصول التي دندن حولها التهامي حين جاء بكلامه هذا.
 
لا شك أن الكثير منا شاهد الزرانيق متشمرين لافين طرفًا من أزرهم بين أفخاذهم، ليثبتوه في أحزمتهم من الخلف؛ وذلك حين يبدؤون الجري للقفز فوق الجمال أو عند اللعب والرقص، وكذلك يفعل مصارعو الساموراي، فما هو الفعل بالعربية الذي يعبر عن هذه الحالة؟
 
جاء في: «تهذيب اللغة»: الاستثفار إدخال الكلب ذيله بين فخذيه حتى يلزقه ببطنه. والرجل يستثفر بإزار عند الصراع.
 
هذا هو الفعل المعبر عن هذه الكيفية التي يتخذها الزرانيق عند اللعب والرقص والجري للقفز فوق الجمال، وكذلك يفعل مصارعو الساموراي.
 
 في تعز قد يطلب أحدهم من الآخر شيئًا، فيجده ساهمًا شاردًا؛ فيقول له: ما لك مقعي؟
 
يقول الأستاذ أحمد شرف سعيد الحكيمي في كتابه «لهجة المعافر وتراثها»: "قَعَّى: فتح فمه إلى أقصى ما يستطيع دون حاجة لذلك. ومجازًا يقال: فلان مقعي؛ أي يتلقى الأمور في بلاهة وبلادة.
 
ولعل أقرب المعاني إليها في العربية الفصيحة هي ما ذكره صاحب «الصحاح»: أن يلصق الرجل أليتيه (عجيزتيه)، بالأرض، وينصب ساقيه، ويتساند إلى ظهره. وأقعى الكلب: إذا جلسَ على استه مفترشاً رجليه وناصبًا يديه. ففي كلا المعنيين يظهر معنى الاسترخاء، وعدم التأهب.
 
 يكثر عند الشباب في أيامنا هذه أنهم إذا تنادوا لمساعدة أحد أصدقائهم أن يقولوا: الفزعة ياشباب! وهي لفظة لم أكن أسمعها عندما كنت في طور المراهقة، لذلك فمن المرجح أنها أخذت من المسلسلات الخليجية.
 
يقول علي بن حمزة في كتابه «التنبيهات»: "أما المعنى الآخر من الفزع والإفزاع، فالإغاثة والإنجاد ... ويقولون من هذا: أفزعت زيدًا لمَّا فزع إليّ؛ أي أنجدته ونصرته لما استغاث بي، وأتاني خائفًا؛ وكذلك المعنى الآخر من الفزع؛ وهو الإغاثة. تقول: فزع فلان فلانًا إذا أغاثه... وقد قالوا في الإفزاع: فزعت إلى فلان فأفزعني؛ أي لجأت إليه فنصرني".
 
فمعنى قولهم الفزعة: الغوث والنصرة والعون لصاحبكم بما تقدرون عليه.
 
وفي الأخير..
 
يفزع اليمنيون إلى الله بأن يكفيهم لبج اللابجين: الداخلين والخارجين، وعرط العارطين؛ حتى يعود اليمن سعيدًا كما كان، ويرجع أبناؤه متحابين كما كانوا.

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً