لا أدري أهي إحدى محاسن وسائل التواصل الاجتماعي أو إحدى مساوئها، أن كشفت تدني مستوى الوعي السياسي والاجتماعي لبعض كبار المتعلمين وأدعياء الثقافة والأكاديميين، من الحاصلين على شهادات البكالوريوس والماجستير والدكتوراه، فعوض أن يتبنوا مواقف مؤيدة للتغيير السياسي والتحول الديمقراطي، وبناء دولة قانون ومواطنة متساوية تحقق العدالة الاجتماعية وتحترم حريات المواطنين وحقوقهم وتصونها، يتبنون مواقف سياسية "رجعية"، مؤيدة إما للعودة لنظام الخلافة أو العودة لنظام الإمامة، أو استعادة حكم علي عبدالله صالح الذي ثار الشعب اليمني ضده في فبراير 2011، من خلال الدعوة لتولي نجله أحمد علي منصب رئيس الجمهورية، وعوض أن يضطلعوا بدور قيادة الجماهير، ينقادون انقيادًا أعمى للعوام والأميين وأشباه الأميين، ويتبنون حججهم، التي تتركز حول القول بأن عفاش، وليس الدولة، كان يصرف مرتبات الموظفين، ويقارنون أسعار بعض السلع وأسعار صرف الريال اليمني بأسعارها حاليًا، ولا يقارنونها بما كانت عليه عند وصوله للسلطة عام 1978.
سؤال مهم يطرح نفسه علي وعلى كثير من المثقفين والمحللين والأكاديميين، هو: لماذا لا ينعكس التعليم العالي الذي حصل عليه هؤلاء على سلوكهم السياسي ومواقفهم؟ والسبب من وجهة نظري يرجع إلى أن طرق التدريس "pedagogies" التي تلقوا بواسطتها تعليمهم في مرحلة البكالوريوس، غالبًا في المؤسسات الأكاديمية اليمنية، المصرية، العراقية والسودانية، هو تعليم تلقيني، أو تعليم بنكي حسب مصطلحات باولو فيراري، يقوم على تزويد الطالب بمعارف "knowledge"، من أجل استرجاعها في الامتحان، ولا يساعده على تطوير الإدراك "cognition"، وبناء استدلالات، وتطوير مفاهيم مجردة، ومعالجة المعلومات واستخدامها في التحليل، التعليل، المقارنة، المناقشة والنقد. هذا الأسلوب التعليمي لا يساعد الطالب على استدماج المعارف واستبطانها، واتخاذها مرجعية موجهة لسلوكه مستقبلًا، وفي مرحلتي الماجستير والدكتوراه، اللتاين يفترض خلالهما أن يتمرد الطالب على دور التلميذ المطيع المتلقي للمعرفة، ويتحول إلى باحث جاد مُنتِج للمعرفة، يتحول في الواقع إلى مريد من مريدي الأستاذ، ومجرد مقلد لمن سبقوه، من خلال استخدام المنهج الوصفي، الذي يضيف إليه البعض صفة التحليلي، وكأنهم يقدمون شيئًا جديدًا، وجمع بيانات ميدانية إمبيريقية "empirical" وصفها س. رايت ميلز في كتابه "الخيال العلمي الاجتماعي" بـ"الإمبيريقية المجتزأة". هؤلاء "الباحثون" لم يدربوا على استخدام المناهج النقدية، والمقاربات التفسيرية والتنبؤية، التي تمثل من وجهة نظري رياضة عقلية، تبني عقل الباحث وتطوره بما يجعله آلية للإدراك، عوض أن يكون مجرد مخزن لتخزين المعلومات.
الخلاصة أن النظام التعليمي العربي ينتج متعلمين غير قادرين على تجاوز ما هو محسوس إلى ما هو مجرد، يحكمون على النظام السياسي بناءً على ما يوفره لهم ولغيرهم من منافع مادية مباشرة، كالمرتبات والسلع الاستهلاكية رخيصة الثمن، ولا يمتلكون المعرفة والقدرة والتأهيل اللازم للحكم عليه من منظور القيم السياسية المجردة، المتعلقة بالحرية، المساواة، العدالة الاجتماعية، إنفاذ القانون، الأمن والسلام الاجتماعيين، التماسك الاجتماعي، الدمج الاجتماعي وبناء الأمة.
سؤال آخر يطرح نفسه هو: كيف استطاعت قلة قليلة من المتعلمين والمثقفين والأكاديميين التمرد على هذه البيئة التعليمية، وتبني وعي سياسي ديمقراطي، والانشغال بمصالح الجماهير وحرياتهم وحقوقهم، بدلًا من التقوقع حول مصالحهم الخاصة؟ هؤلاء هم في الحقيقة لم يكتفوا بما تلقوه من تعليم في المؤسسات الأكاديمية الرسمية، وبنوا أنفسهم بأنفسهم، من خلال قراءات حرة، والاحتكاك بمؤسسات أكاديمية رائدة في الخارج، بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر، عبر الإنترنت ووسائل التواصل الإلكتروني، والتعامل مع مراكز أبحاث ومصانع أفكار "think tanks" حرة، والمشاركة في مؤتمرات وندوات دولية.