صنعاء 19C امطار خفيفة

الاستفادة من تجارب الدول ليس عملًا تجسسيًا!

إن تلاقح الحضارات ضرورة، فلا يمكن لأية حضارة أن تقوم بمعزل عن تجارب الحضارات السابقة لها، وهذه قاعدة معمول بها في كل حضارات العالم قديمًا وحديثًا، وعلى كل حضارة أن تنطلق من حيث انتهت عجلة الحضارة السابقة لها من التطور والعلوم والأنظمة الإدارية وسياسات وتنظيمات، وبناء الدولة وفقًا لأحدث الأنظمة التي توصلت إليها البشرية.

ويخطر لي في هذا السياق تجربة الأردن التي استفادت من خبرات الجيش التركي، وأبقت على ضباط أتراك بعد الحرب العالمية ليعملوا في الجيش العربي الأردني، قد كان بناء الجيش الأردني من خلال إرسال بعثات عسكرية إلى بريطانيا، بل إن الجنرال "جلوب"، مؤسس الجيش الأردني، تولى قيادة أركان القوات المسلحة الأردنية فترة من الزمن، وبعد ذلك تم الاستغناء عن خدماته، وتولى ضباط أردنيون قيادة الجيش، وكذلك استفاد الأردن في بناء مؤسسات الدولة، وتشكيل الوزارات، من خبراء بريطانيين.

ونحن نعلم أن الحضارة الإسلامية قد استفادت من تجارب الحضارات السابقة، فأخذ المسلمون "الحساب" من الحضارة الهندية، و"التشريع" من الرومان، و"المنطق والفلسفة وعلوم الطبيعة" من اليونان، ومن يطلع على مدونة جوستنيان في القانون الروماني، يجد أن معظم قواعد الشريعة الإسلامية مأخوذة بالنص من تلك المدونة، ومنها قاعدة "لا ضرر ولا ضرار"، و"على المدعي البينة والمنكر اليمين"، و"يخلى المدعي وسكوته"... إلخ. وقد سبق لي أن أنزلت على صفحتي على "فيسبوك"، أكثر من ثلاثين قاعدة، وصورت أكثر من عشرين نسخة من المدونة، ووزعتها على بعض المحامين والقضاة.

ومن المعلوم أن أول من استفاد من تجارب الحضارات الأخرى في الإسلام، هو الخليفة الثاني عمر (ض)، فقد أخذ بنظام الدواوين المعمول بها في بلاد فارس، فأنشأ عددًا من الدواوين كديوان "الجند" وديوان "الخزانة"، وديوان "العطايا" الذي يشبه إلى حد ما نظام التأمينات الاجتماعية في هذا العصر.

ولدينا أكبر مثال هو اليابان، حيث فرضت عليها الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية التوقف عن صناعة السلاح، وتدريس مناهج علمية غربية، وتوقيف تدريس عقيدة "الجهاد" التي كانت سائدة لدى الشعب الياباني، وهي عقيدة لا تتوفر لدى أي شعب من شعوب العالم، حيث كان كل جندي ياباني يحول نفسه إلى قنبلة، والطيارون عندما تنفد الذخيرة لديهم يهبطون فوق أفراد قوات العدو، وعلى سبيل التمثيل قامت أم بالانتحار ليسمحوا لولدها الوحيد بالتجنيد، ومع ذلك قبلت اليابان شروط المنتصرين، وقدمت مثالًا يحتذى به، حيث قبلت الشروط التي فرضها المنتصرون، وعملت بها، وصنعت جيلًا لم يتخلَّ عن هويته وعقائده، واستطاع الإمبراطور الياباني أن يقود بلاده حتى أصبحت تنافس الدول التي فرضت عليها شروطًا تعتبر في نظر الجهلاء مجحفة، إلا أن الإمبراطور، وهو الذي كان محرمًا النظر إلى وجهه، وعلى من يقف أمامه يقف مطرق العينين إلى الأرض، ويتراجع بخطوات إلى الخلف، وذلك لأن الإمبراطور -حسب زعمهم- من سلالة مصطفاة من الله، لكنه خرج إلى شعبه وأمرهم أن ينظروا إلى وجهه، وقال لهم: "ما أنا إلا مواطن مثلكم، ولم يميز الله إنسانًا على أخيه الإنسان، وعلينا كشعب أن نقبل التحدي، ونخوض تجربة التحصيل العلمي والنهوض بشعبنا"، وفعلًا قاد شعبه نحو النهوض الاقتصادي والعلمي، وحقق إنجازات ملحوظة. تغلب على الدول الغربية بالعلم والتكنولوجيا، وفعلًا، سرعان ما أصبحت السلع اليابانية منافسة لمنتجات الغرب، وصار اقتصادها هو الأقوى، وسلعها تغزو العالم.

وليست اليابان إلا واحدة من بين دول كثيرة قبلت شروط الدول المنتصرة، وتحدت، وقبلت التعليم، وخوض التجربة الديمقراطية، فنهضت، ومنها الكوريتان وألمانيا التي خرجت بعد الحرب العالمية الثانية منهزمة، تم تقسيمها إلى دولتين شرقية وغربية. وانتهت الحرب الباردة وأعيد توحيد البلاد، حيث تطورت ألمانيا الغربية نحو الديمقراطية، وأصبحت نموذجًا ناجحًا للاندماج والتعافي. وعندما قررت بريطانيا سحب قواتها من ألمانيا الغربية طلبت ألمانيا بقاء الجيش، والتزمت بدفع كل تكاليف بقائه من تموينات ومرتبات... الخ. وعندما احتج بعض الألمان على تصرف الحكومة، قال لهم مستشار ألمانيا حينذاك إن الجيش سينفق تلك المرتبات في شراء أغراض وسلع من منتجات ألمانيا، وإن انسحاب القوات البريطانية سيتطلب من ألمانيا تجنيد شباب هم عمال المصانع. ولم يقل إن ذلك عمل جاسوسي أو انتقاص للسيادة.

وكذلك فعلت جنوب إفريقيا بعد نظام الفصل العنصري والحروب الأهلية، قاد نيلسون مانديلا عملية الانتقال إلى الديمقراطية في التسعينيات، مما حقق تغييرات جذرية في النظام السياسي والاجتماعي.

وفي دولة تشيلي بعد حكم الدكتاتور أوغستو بينوشيه الذي استمر لسنوات، أجريت انتخابات حرة في التسعينيات، مما أدى إلى بناء ديمقراطية مستقرة.

ومثل ذلك فعلت سيراليون بعد حرب أهلية دامية بين 1991 و2002، تبنت البلاد مسار الانتخابات الحرة والإصلاحات الديمقراطية، مما ساعد على تحقيق الاستقرار.

وأحدث مَثل تجربة روندا: بعد الإبادة الجماعية عام 1994، عملت الحكومة على بناء مجتمع ديمقراطي مستقر من خلال المصالحة وتعزيز النمو الاقتصادي.

وكذلك فعلت إسبانيا بعد فرانكو، حيث انتقلت إلى الديمقراطية في السبعينيات من خلال إصلاحات سياسية، مما أدى إلى إنشاء نظام ديمقراطي مستقر.

وتشيكيا توحدت مع سلوفاكيا، ثم انفصلتا عقب انهيار الشيوعية في 1989، تبنت تشيكيا نظامًا ديمقراطيًا يتميز بالحرية السياسية والتنمية الاقتصادية.

وكذلك كرواسي: بعد الحرب المستقلة عن يوغوسلافيا في التسعينيات، نجحت كرواسي في بناء ديمقراطية قوية، وانضمت لاحقًا إلى الاتحاد الأوروبي.

ومن تلك الدول التي استفادت من التدخل الخارجي، أوغندا: رغم التحديات، حققت أوغندا بعض التقدم نحو الديمقراطية منذ التسعينيات، مع التركيز على التطور الاقتصادي، وكولومبيا: على الرغم من الصراعات الطويلة، استعادت كولومبيا الاستقرار والديمقراطية من خلال المؤسسات الانتخابية والإصلاحات.

هذه الدول تعكس كيف يمكن للتحول الديمقراطي أن يتحقق حتى بعد فترات من الصراع والتحديات.

هذه الأمثلة توضح كيف يمكن للدول أن تتخطى آثار الحروب، وتحقق تقدمًا نحو الديمقراطية والاستقرار، وتستفيد من التدخل الخارجي ومنظمات المجتمع الدولي، ولم تعتبر التدخل إلا منقذًا لها، ولم تتخلَّ عن هوياتها الوطنية أو عقائدها.

يمكن لليمن الاستفادة من تجارب الدول التي خاضت تحولات ديمقراطية ناجحة بعد النزاعات، بعدة طرق:

البدء بالمصالحة الوطنية، وتبني نهج المصالحة، يعزز من التعايش السلمي بين المكونات السياسية والاجتماعية، كما حدث في جنوب إفريقيا، وبناء دولة مدنية تستوعب جميع المكونات السياسية وفقًا لنظام التداول السلمي للسلطة.

واستئناف الحوار الوطني الشامل، وتنفيذ مخرجات الحوار الوطني الشامل الذي كان المطلب الثالث لأنصار الله (إلغاء الجرعة، تغيير الحكومة، وتنفيذ مخرجات الحوار)، وذلك قبيل اجتياحهم العاصمة صنعاء.

وإجراء حوار يجمع جميع الأطراف اليمنية، يمكن أن يساعد في تعزيز الوحدة وتحديد أولويات الإصلاح.

ثم إجراء الإصلاحات السياسية، وضمان انتخابات حرة ونزيهة، كما في تجارب الدول الآنفة الذكر، يمكن أن يسهم في بناء ثقة المواطنين. والعمل على بناء مؤسسات الدولة المستقلة عن بعضها البعض، وأهم مؤسسة يجب أن تتمتع بالاستقلال، هي المؤسسة القضائية، فتطوير مؤسسات الدولة السياسية والقوية والمستقلة يساعد على تعزيز الحكم الرشيد، مما يُعزز الاستقرار.

وإلزام دول العدوان، وعلى رأسها السعودية والإمارات بإعمار ما هدمته الحرب، وتقديم التعويضات العادلة عن الأضرار العامة والخاصة، وكذلك تعزيز الاقتصاد، والتركيز على التنمية الاقتصادية والاجتماعية، يمكن أن يُخفف من الضغوط الاقتصادية، مما يسهم في تحسين الوضع العام.

وهذا لا يتأتى إلا بالتعاون الدولي، والاستفادة من الدعم الدولي والخبرات الأجنبية لتعزيز عمليات التحول الديمقراطي، كما حصل في ألمانيا واليابان. ولا يعني أن استقدام خبراء أجانب وإنشاء معاهد لتعليم الديمقراطية، وبناء مؤسسات الدولة، وصياغة الدساتير، يعد عملًا استخباراتيًا.

وعلينا أن نستفيد من تجارب الدول التي سبقتنا في التقدم وبناء أنظمة الحكم، والاستفادة من التجربة اليابانية بخاصة في تطوير التعليم، والتركيز على المناهج العلمية، حتى لو تطلب أن يتم نقل مناهج التعليم الأساسي كما هي.

وهذا يتطلب النهوض بالوعي السياسي، وزيادة الوعي لدى المواطنين حول الحقوق والواجبات السياسية، وتوعية الشباب، بما يمكن أن يسهم في مشاركة فعالة.

باتباع هذه الاستراتيجيات، يمكن لليمن أن يخطو نحو تحول ديمقراطي شامل ومستدام، مستلهمًا من تجارب الدول الأخرى.

 

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً