ماذا يتبادر إلى ذهنك عندما ترى شخصًا ينحني لتقبيل يد شخص آخر ويغسلها، حتى لو كان هذا الشخص رجل دين كما في الفيديو المرفق؟ ألا يستدعي هذا المشهد أن نسأل أنفسنا عن طبيعة العلاقة بين الديني والطقسي وحدود التداخل بينهما؟ لماذا لا يكتفي المتدين بالشعائر الدينية الأساسية مثل الصلاة والصيام ودعواته الخاصة والجماعية، ويشعر بالحاجة إلى ممارسة طقوس قد تسيء إلى كرامته أمام كائن بشري مثله؟ وهل يمكن الاستغناء عن الممارسات الطقوسية الكهنوتية وما يرتبط بها من أنشطة روحية، أم أنها جزء لا يتجزأ من إنسانية الإنسان؟
من زاوية نظر أنثروبولوجية، الإنسان هو كائن طقوسي بامتياز مثلما هو كائن رمزي. إن استمرار الأنشطة الطقوسية التي تحمل طابع التقديس للبشر حتى اليوم، في حين من المفروض أن تكون العقلانية والنفعية والتكنولوجيا هي الطاغية والمهيمنة على ممارسات الناس، لا يعدو كونه ممارسات ذات طابع هامشي تقتصر على مجتمعات معينة كالعالم الثالث، وفي المجتمعات التي تكون الأنشطة المنتجة فيها (الاقتصادية والسياسية والثقافية والعلمية) هامشية أيضًا. إذا كانت المجتمعات الحديثة قد "تعقلنت" واتجهت أفعالها أكثر فأكثر نحو النجاعة والعقلانية، أليس من المفروض أن مجالات الممارسة الرمزية ذات الشحنات السحرية والكهنوتية، والطقوس ذات الصبغة التقديسية المبالغ فيها، قد ضاقت ولم تعد ذات معنى كما كانت في مجتمعات ما قبل الثورة الصناعية وعصر الحداثة وما بعد الحداثة؟
في الواقع، يجب أن ننتبه إلى أن ممارسات الناس، خاصة الدينية والطقوسية منها، هي ممارسات عقلانية بحتة وليست خارج حدود العقل. ومن يقوم بها هو كائن عاقل ناضج، خالٍ تمامًا من "اللاعقل" أو من تأثير "مجنونة العقل"، كما يسميها علماء الأنثروبولوجيا، أو في منأى عن "بهتان سيدة الخطأ والزيف"، كما قال بليز باسكال عن ملكة الخيال في أداء العقل. ما نطلق عليه "العقل" لا يمارس فعله ونشاطه بشكل مستقل عن العواطف والخيال، بل يمارسه في ارتباط مع الحلم والمتخيل والصور الذهنية الماثلة في أعماق اللاشعور الإنساني. فالخيال و"الجنون" و"الشطحات الذهنية" ماثلة في ذهن أكبر العقلاء. ولذلك، يبقى العقل دومًا في حاجة إلى الخيال وحلاوة الوهم كي يشتغل ويعمل.
هذا في تفسير الوقائع كما هي مجردة، لكن عندما نستدعي المعاني الوظيفية للممارسات، نجد تفسيرًا آخر وهو أن "الغاية تبرر الوسيلة". الشراكة النفعية بين رجل الدين والسياسي لا تقتصر على تقاسم السلطة والثروة، بل تتعدى ذلك إلى التشارك في التلاعب بالعقول وهيمنة على عقول الناس باستخدام الدين في تلك الشراكة.
السياسي يدرك وهم وضحالة ما يقوم به عندما يقبل يد رجل الدين، بينما شجاعة واستمراء رجل الدين لتلك الممارسة، وتقديم يده أو ركبته بكل حميمية ليقبلها من يستطيع أن يقتله في أي لحظة، يفسر حقيقة تلك الشراكة غير البريئة والجشعة. إنه التحالف العلني والسري بين جبهتين نفعيتين هما الديني والسياسي. كيف نفسر تحالف آل سعود مع مشيخة آل الشيخ على مدار أكثر من قرنين، وتحالف الإخوان المسلمين مع علي محسن الأحمر وفرقته العسكرية، وتحالف القصر الملكي والقصر الرئاسي في كل قطر عربي مع المشيخات في الأزهر والقرويين والزيتونة والجوامع الكبيرة في عواصم الدول؟ نفس التحالفات ومن أجل نفس المصالح: السلطة والثروة، وبنفس الطقوس الولائية يتم تبادل الأدوار في السر والعلن. فمثلًا، في الحالة السنية تُمارس تلك الطقوس في الخفاء وخلف الكواليس، بينما يظهر بعضها في العلن من خلال ممارسات بعض الطرق الصوفية وبعض الفرق الشيعية.