صنعاء 19C امطار خفيفة

تهامة المغلوبة على أمرها: ذكريات يوم واحد

حفزتني فيضانات تهامة المدمرة في اليومين الماضيين، على الكتابة عن زيارة جزء منها في عام ١٩٨٨، لايزال ما شاهدته وما سمعته فيها محفورًا في ذاكراتي، وكأنه حدث بالأمس.

 

 عرض الصديق طاهر علي سيف آنذاك استضافتي في شاليهات كان يبنيها في منطقة "الفازة"، وظننت أنها جاهزة، فحزمت أمري، وأخذت زوجتي، وطفلينا غسان ورانيا، وذهبنا إلى هناك في الإجازة الدراسية.

ساعدنا في الوصول المهندس عبدالمؤمن هزاع الذي سكنت وإياه في عمارة واحدة بحي المنيل في القاهرة، أثناء دراستنا في ستينيات القرن الماضي، وكان يعمل في مشروع وادي زبيد، وفي القاهرة كان من أشد خصوم الحزب الديمقراطي، ثم حول الواقع في اليمن موقفه ١٨٠ درجة.

الفازة قرية صغيرة تتبع إداريًا مدينة الخوخة، وفي يوم الزيارة رأينا الخوخة منها، ولكننا لم نرَ الشاليهات. وما رأيناه هو عشش تهامية غير مكتملة البناء، بنيت خصيصًا للسائح الأجنبي. قررنا قضاء يوم، ثم نعود إلى الحديدة.

رأينا سكان الفازة سيئي التغذية، نحيلي الأجساد، يصطاد شبابهم السمك من مكان قريب جدًا من الشاطئ، وشاهدنا سمك الجمبري يتحرك أمامنا في ماء البحر الصافي.

تحدثت مع بعض شباب الفازة الذين لم يكن بينهم شخص واحد من كبار السن، وسألتهم عن أحوالهم، فقال أحدهم هنا نتزوج في عمر الحادية عشرة، سألت لماذا، قال لأن عمرنا قصير، وقد لا يتجاوز الأربعين.

عن معالجة مرضاهم بغياب أية مؤسسة صحية عندهم، قال أحدهم الذي معه فلوس يذهب إلى الحديدة، سألته كم يملك هذا المحظوظ؟ رد: بالكثير عشرة آلاف ريال، ومن لا يستطيع الذهاب إلى الحديدة، بم يتعالج؟ قال بالأكل، نهتم بتغذيته، وقد يُشفى أو لا يشفى. وأضاف أن الغني فيهم يحصل على أمواله من التهريب بالبحر إلى السعودية.

لاحظت ونساءهم النحيلات يضعن السمك في التنور (الطبون)، أنهن يضعن الأصغر والأرخص، أما السمك الذي يمكن تسويقه خارج الفازة، فللغير. قلت له إني ألاحظ أنه لا يوجد دكان عندكم لمتطلباتكم التموينية اليومية، فرد بأن شخصًا يأتي من حين إلى آخر على حمار يحمل مواد تموينية، ونشتري منه ما نحتاج. سألته عن سبب عدم رؤيتي لمدرسة واحدة في الطريق من زبيد حتى الفازة، فرد بأن الثورة لم تصل إلينا حتى الآن. وشكا أحدهم من محاولة أحبطوها للاستيلاء على أرضهم من قبل رجل أعمال كان يريد طردهم منها وتحويلها إلى منطقة سياحية.

سألت عن مدير الناحية وتعامله معهم، فقال إذا كان من الجبالية فيا ويلنا، أما إذا كان من تعز فهو أقل بطشًا، وسألت عن اسم مدير الناحية فقال من بيت الشايف. وبعد سنوات تحدثت مع الراحل د. عبدالكريم الإرياني، في منزله، عما سمعته في الفازة، وقد أضاف أن الرئيس الراحل علي صالح الذي كان لايزال في السلطة، عيّن نجل الشايف محل والده بعد وفاته.

قبل مغادرة الفازة لاحظت أن الشاب السمين الذي حمل سمك الفازة داخل خُرج فوق موتور سيكل، لبيعها خارجها، قد عاد والخُرج مملوء بالقات لاستعادة ما دفعه للفازيين من أثمان للسمك، مما يجعلهم يعيشون عيشة كفاف ضنكًا، ويسهم في عللهم وقِصَر أعمارهم.

هذه هي تهامة المظلومة عبر التاريخ، والتي تحول بعض سكانها من ملاك إلى أجراء في المزارع التجارية التي كانت أرضهم واشتراها أباطرة الفساد من أموالنا بأثمان بخسة.

كارثة اليوم وهل يوجد حل جذري؟

نعم.. أولًا: أن تعلن السلطة الحاكمة أن تهامة وحجة وغيرهما كمقبنة مناطق منكوبة، وتجهز ما استطاعت من عون عاجل، وتستعين بالدول الشقيقة وبالمنظمات الدولية لتذويب رأس جبل ثلج هذه النكبة.ثانيًا: أن تعطى تهامة الأولوية في التنمية لإزاحة ظلم وتهميش قرون لم تحظَ فيها تهامة حتى بأنّةٍ تهامية كأنّة النعمان الأولى، مما سهل التعامل معها كمنطقة هامشية ولقمة سائغة يسهل استغلال أهلها وأراضيها.

إن الفيضانات الأخيرة أكثر من جرس إنذار لوضع خطة لبناء سدود تحول دون تكرار الكوارث، وتطويرها عمرانيًا وخدميًا واقتصاديًا بالاعتماد على ما يتوفر لديها من موارد، وهي كافية لتعميرها، ومنها الدخل الجمركي لميناء الحديدة، والثروة السمكية، وتطوير الزراعة في أراضيها الخصبة، وتشجيع السياحتين الداخلية والخارجية في بيئتها المسالمة وشواطئها، ووضع خطط لتطوير الزراعة فيها، وهي التي تسمى "معدة اليمن".

حان وقت العمل في تهامة.

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً