صنعاء 19C امطار خفيفة

انطباعات موجزة عن السعودية ومصر والتواجد اليمني بهما!

(الحلقة الأولى)
 

بعد قضاء قرابة ثلاثة أشهر خارج الوطن، حيث قمتُ بأداء مناسك العُمرة وزيارة المدينة المنورة بجانب اللقاء ببعض الأبناء والأحفاد والأقارب وبعض زملاء الدراسة وغيرهم، في مكة المكرمة والمدينة المنورة وجدة والطائف والرياض، ثم في القاهرة.

 
عُدتُ بعدها إلى الوطن، وتحديدًا إلى تعز العِز..
وباستثناء أداء العمرة وزيارة المدينة المنورة واللقاء مع مَن ذكرتهم آنفًا، قد يمكنني القول إن رحلتي الأخيرة هذه غير جيدة مقارنة برحلاتي السابقة، وهي كثيرة.. ولأسباب لا حاجة لذكرها هنا! وقد يعرف القارئ بعضًا منها من خلال قراءته لهذه "الدردشة". وربما بعض تلك الأسباب قد يُمكن فهمها من قول القائل:
"أنكرتَ بَعدَك من قد كُنتَ تعرفه
ما الناس بعدك (يا يحيى) بالناسِ"
العزيز محمد عبدالله نعمان عقلان، أحد أبناء مديرية جبل حبشي محافظة تعز، أتذكر بعد حرب عام 1994م، زارنا إلى مقر سكني بعاصمتنا المحتلة حاليًا: صنعاء العزيزة، وطلب مني بكل حُب وحرص، وبكل إلحاح، مُفَارقة الوطن! مضيفًا أن ارتباطي ببعض العلاقات العديدة والمتنوعة خارج اليمن بجانب مؤهلاتي العلمية والعملية، ستساعدني حتمًا في الاستقرار المادي والنفسي والأكاديمي أيضًا خارج الوطن! مؤكدًا وهو يحثني على الهجرة أن ظروف اليمن غير مستقرة! وأنه يخشى القول إنها ستظل كذلك، بل قد تدخل -يقصد اليمن- بظروف وأوضاع أشد وأمر! أجل قال ذلك تمامًا! (أحسب أنها فَرَاسة المؤمن!)، مع أني لا أدري هل لايزال يتذكر ما قاله يومها؟! أما أنا فمازلتُ وسأظل أتذكر ذلك.
 

ورغم إلحاحه عليَّ بالهجرة مندفعًا بحب وتعاطف صادق حينما قال ما قال، ولأنني لم أُشاركه بما قاله عن حاضر ومستقبل وطننا اليمني حينها! فقد شكرته على مبادرته الأخوية الصادقة، وأصررتُ على البقاء في الوطن! بينما هو فارق وَطنه بعد أن استقال من وَظيفته بوزارة الأوقاف والإرشاد، ليستقر به المقام بمكة المكرمة، ونعم الاختيار!

 
وبحكم بعض علاقاته، بخاصة من خلال عمله الوظيفي، حسب فهمي، وَسُمعته الحَسنة لدى الخاص والعام، وذكائه وَمُرُونته، ثم -وهو الأهم مما سبق- احترامه وتقديره لكل ما ومن حوله بمكة المكرمة، وتمسكه بكل القوانين والأنظمة المعمول بها رسميًا بالمملكة، وصولًا إلى ولائه لوطنه الجديد، منطلقًا من مفهوم: "الفقر في الوطن غُربة، والغِنى في الغُربة وَطن!".
كل ذلك وغيره من العوامل الإيجابية ساعدته في عمله، ليصبح بفضل الله، ثم بتلك العوامل، من أهم المُستثمرين، بخاصة في مجال العمل الفندقي بمكة المكرمة.. وساعد على نمو وازدهار عمله، توجهات حكومة خادم الحرمين الشريفين ممثلة بولي العهد، رئيس مجلس الوُزراء الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز، ورؤيته (2030) الخاصة هنا بتشجيع الاستثمار وفتح مجاله لغير السعوديين من القادرين على العمل والعطاء التنموي وإفادة المملكة!
 

ولذا، لا غرابة أن يُصبح محمد عقلان -وهذا هو الاسم المختصر المعروف به- عنوانًا جَليًا للراغبين في أداء الحج والعمرة بالذات، وفي غير مكان من أنحاء العالم العربي والإسلامي، بخاصة لدى البعض من أبناء وطنه (اليمن)، وقيامه باستضافة بعضهم أثناء أداء الحج والعُمرة ببعض الفنادق التي يستأجرها بمكة المكرمة! حتى بات حديث الخاص والعام في وطنه وَفي غيره.

 
بينما عدم سماعي نصائحه بالهجرة من الوطن يومها! وتمسكي بالبقاء فيه، أوصلني بعد خدمته لقرابة ثلاثين عامًا بكل تفانٍ وحب وإخلاص ونكران للذات، إلى سجني مع اثنين من أبنائي في سجون الأمن الحوثي (القومي) سابقًا! وإن كنتُ غير نادم على ذلك.. ولإيماني أنه: "كلٌ مُيَسرٌ لما خُلق له!". وهذا أحد السببين لذكر العزيز محمد عقلان بهذه "الدردشة". أما السبب الثاني فهو استضافته لي بفندق "المقام" بمكة، القريب جدًا من الحرم المكي الشريف، مع أني طلبتُ منه الحجز بفندق قريب من الحرم، وبسعر يتناسب مع قدُراتي المالية التي لا أخاله يجهلها! فكان لا بد من الحديث الموجز عنه كنوع من أنواع الشكر والامتنان، لأنه: "لا يشكر الله من لا يشكر الناس"، رغم معرفتي المُسبقة بعدم تحبيذه لذلك، وهو ما دفعني لعدم إشعاره بما قلتُه عنه هنا قبل النشر، ملتمسًا منه العُذر إن تسببتُ له ببعض الإحراجات بسبب ذلك!
 
ولأن الشيء بالشيء يُذكر، فقد استضافني لتناول طعام "الإفطار" في فندق "أزكى الصفا"، زميلي القديم بجامعة الملك عبدالعزيز بجدة، وأخي الدائم الشيخ محمد سيف حسن، الذي كان يدرس علوم البحار، بينما كنتُ أدرس الإعلام، فجمعنا الحرم الجامعي والسكن الواحد بجده.. ولأنه سعودي الجنسية، ومن المتصفين بالذكاء والحَنكة واستغلال الفُرص المتاحة لأمثاله من أبناء المملكة، فقد أصبح من كبار رجال الأعمال السعوديين في مكة المكرمة، بالذات في مجال الفندقة! ودون أن ينسى وطن آبائه وأجداده، وهو ما أكده لي غير واحد في اليمن والمملكة عنه، إذ يتسم ببذل الخير وإغاثة الملهوف ومساعدة المحتاجين جزاه الله خيرًا.. وحينما تناولنا طعام الإفطار في فندقه ذاك، تعرفتُ على بعض شيوخ الحرم المكي الشريف، وعشنا جميعًا أثناء الإفطار مع مآسي وويلات ومحن غزة ومن في غزة! ولم أنسَ مع ذلك تذكيره بدراسته لعلوم البحار، ومدى علاقة ذلك بمجال عمله اليوم؟ والتذكير ببعض أهم تلك الأيام وما مثلت من صفاء ووفاء ووئام!
 

لقد حرصتُ خلال أيام رمضان المبارك أن أكون قريبًا من الحرم المكي الشريف، وهو ما توفر لي ولأم الأبناء بفضل الله ثم بفضل الأخ محمد عقلان جزاء الله خيرًا.. حتى نتمكن من أداء الصلوات الخمس والتراويح داخل الحرم بكل سهولة ويُسر، وتناول الإفطار أمام الكعبة المشرفة، ظنًا مني أن الوضع لايزال كما كان قبل بضع سنوات، مع بعض الفارق في حجم أعداد المعتمرين، لكنني تفاجأتُ حقًا بحجم المعتمرين والمصلين، ومدى الزحام الذي تعايشتُ معه رغمًا عني ومُكرهًا، وبصورة يعجز الوصف عن وصفها، مع أن آخر عهد لي بالحرم المكي كان قبل سنوات فقط، وإن لم يكن ذلك أيام شهر رمضان المبارك.

 

ولذا، كان لا بد من الاستفسار عن أهم أسباب ذلك الزحام غير المعهود، وهل يقتصر ذلك على أيام شهر رمضان المبارك فقط؟! وكانت الردود أن الزحام بالحرمين الشريفين بات على مدار العام، وإن كانت تزداد قليلًا خلال أيام شهر رمضان المبارك، لكنني لم أجد ردًا واضحًا عن أهم أسباب ذلك لعدم رغبتهم بالحديث عن ذكرها!

 
ومع ذلك، فرغم كثافة المعتمرين والمصلين، وحرص معظمهم على الصلاة بصحن الطواف أو التواجد قرب الكعبة المشرفة رغم كثافة الطائفين، ورغم حجم الحرم المكي الشريف الذي يتسع لأكثر من مليون، فإن ما يحد من ذلك ومن قيام المعتمرين بأداء مناسكهم كما يجب، هو وجود الدولة بعرضها وجوهرها ممثلة بانتشار رجال الأمن والمرشدين والمُنَظِّمين وكل المعنيين بالمعتمرين والمصلين، بكل أرجاء الحرم المكي وخارجه، بما في ذلك التواجد بالشوارع، بالذات القريبة من الحرم ومن الفنادق التي يوجد فيها المعتمرون، إضافة إلى حُسن التنظيم، بخاصة عند أبواب الدخول إلى الحرم والخروج منه، إضافة إلى وجود اللافتات المُرشِدة بمختلف اللغات.. وقبل هذا كله وجود التخاطب الأخلاقي والتعامل الإنساني مع بعض المخالفين من المُعتمِرِين، وهم كُثر، ودون الإخلال بتطبيق التعليمات الرسمية والنظام الصارم، خصوصًا في هذا الجانب! وربما، لولا التواجد الأمني والتنظيم الدقيق حرصًا على المُعتمرين والمصلين لحدثت تجاوزات من بعض المُعتمرين أنفسهم ولو دون قصد! ولألحقت بعض الأضرار بمعتمرين آخرين.. ولذا لا غرابة أمام ذلك التنظيم والجُهد الاستثنائي أن يجعل أمثالي حيران فعلًا! "فالله أعلم حيث يجعل رسالته".
 
وبالنسبة لحجم وكثافة المُعتمرين مما يؤدي إلى ذلك الزحام غير المسبوق، إنما يرجع -حسب فهمي- إلى فتح تأشيرات العُمرة طوال العام وتمديدها إلى ثلاثة أشهر، وهو ما يشجع بعض المُعتمِرِين من تكرار الذهاب للعمرة والبقاء بمكة المكرمة فترة كبيرة! وذلك بالدرجة الأُولى جعل أمثالي يفتقر إلى أداء الصلوات الخمس داخل الحرم المكي بكل يُسر! وإن كان ذلك من أهم أسباب اعتباري لرحلتي الأخيرة غير جيدة! مع أنني لست الوحيد بذلك!
 
ولم أستسغ ما يردد البعض، بأن من أهم أسباب فتح تأشيرة العُمرة طوال العام، إضافة إلى السماح بقيام الراغبين بزيارة كل مناطق ومُدُن المملكة بنفس تأشيرة العُمرة، هو الرغبة بالعائد المالي! وربما ذلك من أسباب تقاعُس ردود من استفسرتُ منهم من بعض السعوديين عن أهم أسباب ذلك الزحام؟! مُكررًا أنني شخصيًا أستبعد أن الرغبة المالية هي من وراء تلك التسهيلات غير المسبوقة للراغبين بأداء العُمرة.. فلقد حَبى الله المملكة بثروات نفطية وغيرها.. وما تقوم به من إنفاق تجاه الحرمين الشريفين حرصًا على أداء الحجاج والمُعتمرين والزوار بكل سهولة ويُسر، لا يُمكن لأي عائد مالي من تأشيرات العُمرة والحج تغطية جزء من ذلك، إضافة إلى حجم رجال الأمن والمنظمين والمرشدين وكل المعنيين بشؤون الحجاج والمُعتمرين والزوار وغيرهم من الجِهَات الرسمية ذات العلاقة، والتي تستنزف حتمًا مبالغ مالية كبيرة، وكل ذلك يستحيل أن يغطي عائدات رسوم التأشيرات التي تمنح للحجاج والمعتمرين والزوار.
 
كذلك فإن معظم المُعتمرين ممن يستغلون تأشيرة العُمرة في زيارة بعض مناطق ومدن المملكة، يأتون من دول فقيرة، فيذهبون إلى زيارة أقاربهم المقيمين للعمل ليحلوا ضيوفًا عليهم، ودون صرف الكثير من العائد المالي! وإذا توافقنا مع القائلين إن من أهم أسباب تسهيلات العمرة يرجع إلى الرغبة بالعائد المالي، رغم عدم تصديق أمثالي لمثل هكذا مَزَاعم، وهو ما قمتُ بتفنيد ذلك بما قلتُه آنفًا، فيمكن تعويض ذلك من خلال تكثيف وتسهيل المزيد في فتح وتسهيل التأشيرات السياحية، والتي لا بد أن يكون الراغب بالحصول على ذلك، عنده القدرة والرغبة في زيارة مختلف مناطق ومدن المملكة، والتطلع إلى معرفة المزيد عن تطور المملكة بمختلف مناطقها ومُدُنها، ثم قدرته على الإنفاق كسائح، وذلك هو ما يظهر أوجه التشابه بينه وبين المستغلين لتأشيرات العمرة حاليًا!
 
إنه مع تقديري الجَمّ لتوجهات وأهداف وتقديرات حكومة خادم الحرمين الشريفين من فتح تأشيرات العُمرة طوال العام كما هو الحال اليوم، فإنني وأمثالي يتمنون عودة النظام السابق الخاص بهذا الشأن، ليس لعدم القُدرة على استقبال حكومة خادم الحرمين الشريفين لملايين المعتمرين والزوار، وأقل دليل لذلك هو قيامها بذلك حاليًا، وإنما لوضع حد للزحام بسبب كثرة المعتمرين والزوار، والذي قد يصبح هَاجِسًا أمنيًا وصحيًا بنفس الوقت من خلال انتشار بعض الأمراض المُعدية بسبب كثافة المعتمرين، إضافة إلى صرف جهود رسمية مادية ونفسية ومعنوية لمواجهة ذلك، مع ذهاب بعض أهم الجوانب والأهداف عند أداء مناسك العمرة لدى البعض! ليصبح أداء العمرة وزيارة المدينة المنورة بكونهما مجرد "سياحة دينية" وليست "روحية" كما كانت بالأمس القريب!
 
وإن تعذر القيام بإعادة النظام السابق، فيمكن تحديد أعداد المُعتمرين، وعدم تكرار من قد سبق لهم ذلك، كما هو الحال بنظام الحج ببعض الأوجه!
 
مكررًا هنا، أن حكومة خادم الحرمين الشريفين، ومن خلالها كل المعنيين بتأشيرات العُمرة، هم الأدرى والأعلم والأصلح بالطريقة المثلى التي يرونها في تأشيرات العُمرة.
فما أقوله هنا عن الرغبة بعودة النظام السابق في تأشيرات العُمرة، إنما هو مجرد رأي شخصي واجتهاد مُعتمر ومُحب للقائمين على ذلك، لا أقل من ذلك ولا أكثر!

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً