قراءة في مقال القاضي عبدالعزيز البغدادي: "البحث عن الشرعية في جحيم الانقسام الممول"
في مقالته الأسبوعية التي أنزلها الثلاثاء المنصرم بتاريخ ٣٠ يوليو ٢٠٢٠٢٤م، المذكورة آنفًا، كتب القاضي عبدالعزيز ضياء الدين البغدادي، موضوعًا في غاية الأهمية، كونه يلامس الراهن، يمكننا أن نلخصه في الآتي:
أولًا: يمكن القول إن شرعية أي نظام حكم تستند إلى قبول الشعب وإرادته الحرة. وعندما يحدث صراع داخلي أو توترات سياسية بين أطراف مختلفة، فإن هذا يشير إلى وجود أزمة شرعية في النظام القائم، لأن الشرعية لا تأتي من مجرد الاستيلاء على السلطة بالقوة أو الدعاية الإعلامية، بل من التغيير الإيجابي والقبول الشعبي الحقيقي.
ثانيًا: النظام الملكي التقليدي القائم على فكرة امتلاك الحاكم للأرض والسلطة المطلقة، قد فقد شرعيته في ظل المفاهيم الحديثة لسيادة الشعب وحرية الاختيار. ومع ذلك، هناك بعض الملكيات الدستورية التي حاولت إصلاح أنظمتها وإعادة السلطة تدريجيًا إلى الشعب، وهذا قد ساعد في الحفاظ على شرعيتها. وضرب لنا الكاتب مثلًا بملك بريطانيا تشارلز الثالث الذي يحاول أن يعيد الحق للشعب، ويحول بريطانيا إلى نظام جمهوري، بالرغم من أن الملكية في بريطانيا من وجهة نظر كاتب هذه السطور، أكثر جمهورية من أي نظام جمهوري، فهل تسمى روسيا جمهورية في ظل الرئيس بوتين الذي يتصرف أكثر من ملك، بينما في بريطانيا نجد أن الحكم منتخب ديمقراطيًا، وأن الملك يسود ولا يحكم.
ثالثًا: الشرعية اليوم تقوم على اختيار الشعب الحر لنظام الحكم ومؤسساته. وبالتالي، فإن أي تغيير نحو الأفضل يجب أن يتم عبر انتخابات حرة ونزيهة، وليس عبر ثورة شعبية فوضوية مهما ادعت أنها تكتسب الشرعية من خلال قبول الشعب وتأييده، عبر مسيرات أسبوعية تقوم من خلال الدفع بالعوام إلى الميادين العامة، وأن الشرعية في ظل الدساتير والقوانين يجب أن تلتزم الخروج عبر العصيان المدني، أو من خلال ثورة شعبية ممثلة من كافة فئات المجتمع دون تزوير أو تضليل إعلامي.
بشكل عام، نتفق مع التحليل الذي قدمه القاضي عبدالعزيز البغدادي، حول أهمية الشرعية الشعبية كمعيار أساسي لنظام الحكم، وكيف أن النظم الملكية التقليدية قد فقدت شرعيتها في ظل المفاهيم الحديثة، في حين أن بعض الملكيات الدستورية حاولت إصلاح أنظمتها للحفاظ على شرعيتها. وضرب لنا مثلًا بالملكية البريطانية كما أوضحنا أعلاه، وأن سلطات الواقع في اليمن كلها تفتقر للشرعية، فمن وجهة نظر القاضي عبدالعزيز فإن شرعية أي نظام تتلاشى بمجرد "وجود توترات وانقسامات وصراعات على الحكم بين أكثر من طرف، أو بين أجنحة داخل الحكم الواحد سواء نشأ الصراع بعنوان الثورة الشاملة... أو المعارضة الجزئية"، وتحت أي مبرر كان.
نحن نستنتج مما سبق أن أي نظام لا يكتسب شرعيته من الشعب كل الشعب عبر انتخابات حرة ونزيهة، هو نظام غير شرعي سواء كان ذلك في الأنظمة الملكية والجمهورية، إذ يجب أن يتوفر في أي نظام الآتي:
● إن شرعية النظام يجب أن تستمد من مبدأ سيادة القانون والاختيار الحر للحاكم من قبل الشعب، فذلك هو وحده أساس الشرعية في المفهوم الديمقراطي الحديث. وهذا يتعارض مع الأنظمة الملكية التقليدية التي تعطي الحاكم الفرد (الملك) صلاحيات مطلقة.
● هناك بعض الملكيات الدستورية التي قامت بخطوات إصلاحية استباقية لتعزيز الشرعية من خلال إعادة السلطة تدريجيًا إلى الشعب عبر آليات ديمقراطية. ومن أمثلة ذلك المملكة المتحدة واليابان وهولندا وبلجيكا.
● وجود بعض الجمهوريات العربية التي تمارس صلاحيات ملكية مطلقة يشير إلى بؤس التفكير الرجعي الذي يحاول إعادة النظام الملكي تحت مسميات جديدة. وهذا يتنافى مع الروح الديمقراطية والوصف القرآني للملوك والأباطرة بالفاسدين.
● فكرة قيام ملك بريطانيا بالتأسيس لنظام جمهوري تعكس مستوى عاليًا من الوعي والمسؤولية لدى الحاكم، والاعتراف بأهمية النظام الجمهوري كتعبير عن حق الشعب في حكم نفسه بنفسه.
بشكل عام، التطور نحو الأنظمة الديمقراطية التي تعزز مبدأ سيادة القانون والاختيار الحر للحاكم من قبل الشعب، يعد خطوة إيجابية في ترسيخ الشرعية السياسية لأي نظام حكم وللحاكمين. وهناك بعض التجارب الملكية المتقدمة التي تسير في هذا الاتجاه.
ومما سبق نخلص إلى أن شرعية أنظمة الحكم. وشرعية حكامها هي تلك التي تتمتع بالشرعية الدستورية المنتخبة انتخابًا نزيهًا وحرًا وديمقراطيًا، أي هي تلك السلطة التي يتم اختيارها من قبل الشعب من خلال انتخابات حرة ونزيهة وديمقراطية. وتتميز هذه السلطة بالشرعية والوضوح والشفافية في آليات العمل والاختيار، بما يتوافق مع النصوص الدستورية شريطة أن تتوفر فيها العناصر التالية:
أ. حرية التنافس السياسي والتعددية الحزبية.
ب. حرية التعبير والإعلام ووسائل الإعلام المستقلة.
ج. ضمانات النزاهة والشفافية في إجراءات الانتخابات.
د. حرية تكوين الجمعيات والمنظمات السياسية والمدنية.
هـ. المساواة في الحقوق والفرص بين جميع المواطنين.
و. احترام سيادة القانون وحماية الحقوق والحريات.
فتوفر هذه العناصر يجعل السلطة الحاكمة شرعية وديمقراطية وممثلة لإرادة الشعب، وبالتالي تكون سلطة قادرة على القيام بمهامها بفاعلية وحكمة.
ولكي نفرق بين شرعية الحكم، والمشروعية، فإننا نصل إلى ذلك من خلال الرجوع إلى تعريف مصطلح الشرعية، ومصطلح المشروعية، إذ يشير مصطلح الشرعية، في العلوم السياسية، إلى حق وقبول السلطة، ويشير عادةً إلى القانون الناظم أو النظام الحاكم. في حين أن "السلطة" تشير إلى موقف معين في الحكومة المشكّلة، ويشير مصطلح "المشروعية" إلى النظام الحكومي، بحيث تشير "الحكومة" إلى "منطقة النفوذ".
إذن، فإن الشرعية هي التعبير عن حالة الرضا والقبول التي يبديها المواطنون إزاء النظام السياسي وممارسة السلطة، وتمثل قاعدة قانونية للسلطة، ويعبر عن هذه القاعدة إجراء انتخابات تنافسية حرة ونزيهة، تفترض وحدة فعلية بين السلطة والمجتمع، وممارسة فعلية للأهداف المشتركة بينهما، وترتبط بالسيادة، والمساواة، والشعور بالوطنية، والعدالة الاجتماعية، فهي صفة للسلطة القائمة على إجماع عام.
ولكي نطبق ما ذكر أعلاه على شرعية السلطات في الأنظمة العربية، سنجد أنها كلها لا تتمتع بأية شرعية، ففي الوضع الدستوري للدول العربية، فإن الحال هو غلبة السلطة التنفيذية (الحكومة) على السلطتين التشريعية والقضائية، وبهذا فإن سلطة الشعب في حالة اختلال كبير لصالح النظام السياسي.
وفي دراسة شرعية الأنظمة السياسية العربية، يتحدث المفكر العربي عبدالله العروي عن شرعية البنى السياسية لهذه الأنظمة، وطبيعة السلطة العربية، ومصادر الشرعية لديها، فيجد أن البنى السياسية العربية بإجماع الباحثين قائمة على كيانات مصطنعة من كيان اجتماعي متطور هو الأمة العربية، ولكن يجري تجاهلها كليًا، وهذه الدول كما يصفها العروي هي "حديثة النشأة، لا عقلانية، واهنة، عنيفة، مرتكزة على عصبيات وعلاقات قرابة وعشائرية، وعلى بينة عتيقة".
وكان النجاح الحقيقي للأنظمة السياسية هو إخفاء الغليان وتأجيل الانفجار، بتحكمها بوسائل الإعلام الداخلية، ورقابتها الصارمة على إمكانيات الإعلام الخارجي في رصد الأحداث، والتفوق الهائل المتراكم في عمل أجهزة المخابرات العسكرية والأمنية والسياسية، وتحديثها المستمر بالتقنية والتدريب والإغداق الأدبي والمالي.
تعتبر اليمن مثالًا قائمًا وحيًا على الصراع والانقسام الذي يفقد كل سلطات الواقع الشرعية، ويعتبرها كلها دون استثناء سلطات غير شرعية، مغتصبة لحق الأمة في اختيار حكامها، فيبدو اليوم بعد سنوات طويلة من الصراع أنه يصعب على طرف من الأطراف أن يحسم المعركة لصالحه، ومازالت الجماعات المسلحة تمارس العنف، والسجن والتعذيب للمعارضة، وكل سلطة تنبذ الأخرى، وتسميها غير شرعية، فالحوثيون يسمون خصومهم شرعية الفنادق، والأخيرة تقول عن الحوثيين بأنهم عملاء للنظام الإيراني، أي أن الأمر خرج عن نطاق السيطرة، وبخاصة بعد تجذر الاحتكام إلى العنف والقوة المسلحة، وصارت حياة المواطن اليمني مهددة على يد الجماعات المسلحة، بل صارت المدن ساحة معسكرات الشعب عالق على جنباتها.
إن أزمة الشرعية في اليمن لم تكن وليدة اليوم، بل إنها بدأت منذ صعود علي عبدالله صالح للحكم، عبر مسرحية انتخاب البرلمان الذي سبقه توجيه رسائل التهديد لأعضاء البرلمان والترغيب، الذي أعلاه عضوا البرلمان الشجاعان الراحلان الأستاذ محمد الرباعي والأستاذ محمد الربادي، رحمة الله تغشاهما، وكذلك الكفن وداخله الرصاصة المرسلة للقاضي عبدالكريم العرشي لكي ينسحب من الترشح، باعتباره الأحق دستوريًا كرئيس لمجلس الشعب. وأما من بعد الوحدة، وبالرغم الانتخابات الرئاسية والنيابية المتتالية والتعددية السياسية اليمنية، إلا أن تزوير الانتخابات افقدت حكام ما بعد المرحلة الانتقالية الشرعية. وما زاد من عدم شرعية النظام هي تلك الاغتيالات التي طالت قيادات في الحزب الاشتراكي، إذ تم اغتيال أكثر من مائة شخصية سياسية تابعة للحرب الاشتراكي، وما صاحب ذلك من اختلال أمني دون إدراك أن الديمقراطية أو البحث عن الشرعية هما أن يترك للشعب الحرية ليقول رأيه ويحدد اختياره في من يرى أنه القادر على تحقيق أحلامه، فلم يعد هناك أي وجود للجانب الأمني ولا الاستقرار السياسي، وهما الفرضيتان اللتان استمرتا منذ بداية الربع الأخير من سبعينيات القرن العشرين:
- يدعم الفرضية الأولى (استقرار الوضع الراهن) التوجه منذ السبعينيات نحو الاستقرار السياسي، وسيطرة الحكام، ونمو الدول وقدراتها على التحكم، ونشوء معارضة مدجنة، ورسوخ الأنظمة الأمنية والعسكرية وقوتها وكفاءتها العالية.
- ويدعم الفرضية الثانية (حقبة الاضطراب) أن الدول لن تكون أقوى من عوامل الضعف والانهيار الناتجة عن ضعف الشرعية، فغياب الغطاء الشرعي سيفقدها السلطة الأخلاقية، وسيؤدي ذلك إلى فشل الدولة في اكتساب الشرعية.
لقد قامت السلطة والنظام في اليمن على أساس تعسفي، تمارس العنف في السياسة والاجتماع، وهي تفتقد الشرعية الدستورية وشرعية الإنجاز الثوري الذي قد يعطي النظام شرعية، فالنظام ومنذ حرب صيف عام ١٩٩٤م لم يبق له أية شرعية ولا يبرر وجودها سوى تأمين مصالح أصحاب السلطة وشركائها المنتفعين بها، وكانت محاولات إصلاح النظام عبر تلك الانتخابات المزورة قائمة على الانقلابات العسكرية والاستقرار بالقوات المسلحة العائلية، ما أعطى النظام مزيدًا من السقوط في الاستبداد والتخلف السياسي والتنموي، وهذا ما ظهر بالفعل في بلادنا منذ ثورة الشعب السلمية في الحادي عشر من فبراير عام ٢٠١١م، فقد تم إجهاضها بثورتين مضادتين عنيفتين الأولى قام بها حزب الإصلاح بدعم قبلي ممثلًا بحميد الأحمر والجناح العسكري ممثلًا بالجنرال علي محسن الأحمر، والثانية بتحالف بين رأس النظام السابق علي عبدالله صالح وحزبه وأنصار الله، ومنذ اندلعت الثورة الأخيرة عام ٢٠١٤م فقد عجزت جميع الفئات المتصارعة عن حسم الموقف لصالح أي طرف منها، وانتهى الحال إلى كارثة تعصف باليمن والناس والموارد والمستقبل، وتشظت اليمن.
والحل الموصل إلى تحقيق الشرعية السياسية العربية، برأيي، قائم على المبادئ التالية:
- الحل السياسي الديمقراطي بدلًا من الحل العسكري -الأمني.
- تحييد المؤسسة العسكرية.
- التأكيد على البعد العربي الوطني في حركة النظام السياسي.
- الاعتراف بحق القوى الاجتماعية والسياسية المختلفة والمتعددة في المشاركة في السلطة.
- تعزيز حقوق الإنسان.
- الاعتراف بحقوق الأقليات والقوميات في التعبير عن ذاتها.
- إطلاق الحريات.
- التداول السلمي للسلطة.