كانت ومازالت المصالحة الوطنية الفلسطينية ضرورةً ومطلبًا جماهيريًا فلسطينيًا وعربيًا وإسلاميًا، بعد الانقسام الفلسطيني غير المبرر، حتى بإغواء شهوة الحكم عام 2006 وما تلاه من صراع دموي فلسطيني -فلسطيني في غزة.
لقد ظل الانقسام بدون حلحلة حتى حدوث زلزال طوفان الأقصى، وللتاريخ فقد كانت لنا في عدن محاولات حريصة على قضية فلسطين التي هي أكبر من كل انقسام لا يستفيد منه إلا العدو الصهيوني ومن يحميه ويتحالف معه. وجرى التوقيع على اتفاق عدن الجزائر في الثمانينيات انطلاقًا من حرصنا على وحدة منظمة التحرير وقيادتها.
في عام 2007 أقسم الطرفان (المتنافسان على الضعف) على التصالح تحت ميزان الكعبة برعاية سعودية، وفي ما بعد بذلت الجزائر جهودًا دؤوبة محمودة، كما سارت مجموعة السلام العربي في نفس الاتجاه؛ وسعت لتحقيق ذات الهدف لدى طرفي المعادلة الفلسطينية اللذين لا يختلفان حول من هو العدو وما هو هدف النضال الفلسطيني بوجهيه اللذين لا غنى عنهما، المقاوم والسياسي.
لقد خسر الشعب الفلسطيني بعض أوراقه الكفاحية جراء الانقسام الذي تسبب في إضعاف اهتمام البعض بالقضية النبيلة والمقدسة، قضية التحرر من استعمار استيطاني إحلالي تصفوي عنصري يتصرف كمغتصب للأرض، بأن عليه استكمال ما بدأه قبل أكثر من قرن وربع من الزمان؛ باستمرار إنكار حق شعب فلسطين في وطنه وطرده منه كلما استطاع ذلك، وتضليل العالم بأنه غير محتل، وأنه يدافع عن نفسه ليس ضد الفلسطينيين فحسب، بل ضد كل العرب وإيران.
لقد دأبت دولة الاحتلال على اختلاق أسطورة محوها من الوجود، سواء في عهد مصر عبدالناصر أو في ظل حكم بعثي بغداد ودمشق. واليوم يلوح نتنياهو بالخطرين المقاوم الفلسطيني والإيراني، اللذين يزعم أنهما لا يستهدفان إسرائيل بمفردها، بل يستهدفان الحضارة الغربية كلها.
لقد سمعنا نتنياهو في الكونغرس الأمريكي الصهيوني وهو يزعم أن ما يسميه جيش الاحتلال الأكثر أخلاقية في العالم، لم يقتل مدنيًا فلسطينيًا واحدًا، وأن انتصار إسرائيل ضد المقاومة في غزة وجنوب لبنان هو انتصار لأمريكا، والعكس صحيح. ونتنياهو وسط تصفيق أعضاء الكونغرس الحار! يعلم أن مائة وثلاثين ألف فلسطيني استشهدوا وأصيبوا خلال عشرة أشهر، وأن من بين هؤلاء استشهاد سبعة عشر ألف طفل في غزة في غارات جوية وحملات برية بربرية.
هؤلاء أصلًا ليسوا في عداد البشر في رأي الكونغرس الممالئ لوصف يوآف غالانت وزير القتل والدمار والتهجير بعد هبة 7 أكتوبر المجيدة.
أما عن الإدارة الأمريكية والكونغرس الأمريكي فقد ارتكبا عارًا لن يمحوه التاريخ؛ إذ كيف يُدعى مجرم حرب وإبادة جماعية إلى دولة تزعم أنها ديمقراطية، ويُستقبل على أعلى المستويات، والكل يعلم أنه على وشك أن يُصنف مجرم حرب، ويُحاكم على الإبادة الجماعية من قبل محكمة الجنايات الدولية التي تتعرض لضغوط استعمارية أمريكية قوية لعدم المضي في طريق إدانته هو ووزير الحرب والإبادة جالانت.
إن النجاح الصيني، في ما لم ينجح فيه بعض العرب، مؤشر هام يجب أن تعيه دولة الاحتلال، وهو الانتقال التدريجي للقوة من الغرب إلى الشرق، إذ لو لم تكن الصين الدولة العظمى الثانية اليوم والأولى قريبًا جدًا لما نجحت. وعلى إسرائيل أن تحسب حساب هذا المتغير الاستراتيجي، وتتطهر من نجاسة احتلالاتها في فلسطين وسوريا ولبنان اليوم قبل الغد.
إن السؤال البارز هو: إلى متى ستظل دولة الاحتلال دولة وظيفية للغرب؟ بالأمس كانت وكيلة بريطانيا وفرنسا، ثم انتقلت إلى حضن أمريكا؛ وعندما تنهار إمبراطورية الشر الأمريكية لن تجد من تقدم خدماتها له، لأن الشرق لم يكن محتلًا ومستغلًا لموارد العالم الثالث.
إن زوال الاحتلال تحرير للكيان المحتل نفسه من أدرانه وإدمانه على المجازر والحروب والاغتيالات والاعتماد على حماية الدول الإمبريالية. إنه لا سبيل له إلا التسليم الكامل بحقوق الشعب الفلسطيني، والانسحاب الكلي من الجولان السوري ومن مزارع شبعا اللبنانية، هذا إذا كان يريد أن تبلغ حياة كيانه مائة عام قبل أن ينهار لمتغيرات إسرائيلية وفلسطينية وعربية ودولية.
من بوادر هذه المتغيرات الأصوات اليهودية في الغرب وضمائرها التي تعتبر أن إسرائيل دولة محتلة، ومن يحتل الجزء فهو محتل للكل، وأن إسرائيل لا تمثل يهود العالم، وليست حاميتهم كما تزعم.
إن حرية فلسطين واستقلالها هي الشرط الذي لا غنى عنه لبقاء الكيان ربع قرن آخر، وليس أكثر.