صنعاء 19C امطار خفيفة

خواطر على أغنية عشقت الليل

لم أكن البارحة قد انصرفت من صلاة المغرب حتى سمعت الثنائي المبدع: عمر ياسين، وهاجر نعمان، وهما يغنيان «عشقت الليل»، للفنان الراحل طلال مداح، رحمه الله، وهي من كلمات الأمير بدر بن عبدالمحسن، وكانت غنتها قبلهما الفنانة التونسية المجيدة المبدعة مروة قريعة، بصوتها العذب الشجي، فنجشا عليّ الأشجان، ودَرّت بصدري دَفَقَات الأحزان، وطفقت أستمع لها وأتأمل محاسنها وجمال لحنها وفتنتها، وكان مما استوقفني هذا البيت:
 

يا ليل الحُبِّ يا غالي

يا جامعنا وحِنَّا بعيدْ

 
فتذكرت قصيدة جحدر اللص الذي حبسه الحجاج، فقال في سجنه:
 

أليسَ اللهُ يعلمُ أن قلبي

يحبُّكَ أيها البرقُ اليماني

وأهوى أن أرد إليك طرفي

على عدواء من شُغُلٍ وشاني

ومما هاجني فازددت شوقًا

بكاء حمامتين تجاوبانِ

تجاوبتا بلحنٍ أعجميٍ

على غصنينِ من غربٍ وبانِ

فكان البان أن بانت سليمي

وفي الغرب اغترابٌ غير داني

أليس الليلُ يجمع أم عمروٍ

وإيانا فذاكَ لنا تداني

 
والبيت الأخير محل الشاهد. قال الوزير البكري في شرحه «سمط اللآلي»: "هذا من أيسر ما يقنع به المشوق، ويتعلّق به المتتوِّق. ومثله قول رجل من بني تميم:
 

كلانا يرى الجوزاء يا علوَ إن بدت

ونجم الثريّا والمزارُ بعيدُ

وكيف بكم يا علو أهلًا ودونكم

لجاج يغمِّصن السفينَ وبِيدُ"

 
ثم شرع البكري يذكر نظائر هذا المعنى المتوارد على لسان جماعة من الشعراء، أكتفي منها بهذا القدر.
أما خطاب ابن عبدالمحسن لليل بتحميل النسمة همسةً تمر فوق جيد محبوبه، فهذا معنى غير مألوف ولا مطروق؛ إذ ليس هذا من شأن الليل. فالليل ليس عليه إلا أن يجمع بين العشاق ويحجبهم، ويُرخي بأستارِه عليهم، وإنما النسيم هو الذي يُسأل عن الأحباب، وَيحْمِل رسائلهم وأشواقهم وقبلاتهم، ويقوم بتبليغها إلى معشوقيهم، وهو معنى أكثر فيه الشعراء حتى أذالوه؛ فمنها حمينية القاضي عبدالرحمن الآنسي:
 

عن ساكني صنعاء حديثكْ

هاتْ وافوجَ النسيمْ

 
وقصيدة ابن سناء الملك أو العيدروس، على خلاف في ذلك:
 

يا نسيم السحر هل مِنْ خبرْ

عن عُريبٍ بوادي المنحنى؟

 
وقول الشاعر:
 

ويا نسيمًا سرى بلغ تحيتنا

إلى الألى نزلوا في سفح نعمانا

 
إلا إذا اعترفنا بأن لليل سلطانًا قاهرًا، وإرادة نافذة على ما يحويه ويحيط بأقطاره؛ يجعله سيدًا مُطاعًا، ورئيسًا مُجابًا. وكم لليل من أيادٍ بيضاء، فكم جمع بين متحابين، وألّف بين متنازحين. والثنوية الزرادشتية والمانوية يؤلهون الظلمة تأليههم للنور، إلا أنهم يقولون بحدث الآخر، وقِدم الثاني. وأن الظلمة (أهرمن) هو إله الشر، والنور (يزدان) إله الخير، وقد رد المعتزلة قديمًا على المانوية بحجج العقول، وأكذبهم المتنبي في دعواهم هذه بحجج الشعر، فقال في قصيدة له يعاتب فيها كافورًا الإخشيدي. ولا شك أن للون كافور صلة مسيسة بانتصار المتنبي للظُّلمة:
 

وكم لظلامٍ الليلِ عندكَ من يدٍ

تُخبِّرُ أنَّ المانويةَ تكذبُ

 
ويذكر الشهرستاني في «الملل والنحل»: أن المجوس زعمت أن إبليس كان لم يزل في الظلمة -والجو خلاء- بمعزل عن سلطان الله، ثم لم يزل يزحف ويقرب بحيله حتى رأى النور، فوثب وثبة؛ فصار في سلطان الله في النور، وأدخل معه هذه الآفات والشرور؛ فخلق الله تعالى هذا العالم شبكة، فوقع فيها وصار متعلقًا بها لا يمكنه الرجوع إلى سلطانه؛ فهو محبوس في هذا العالم مضطرب في الحبس يرمي بالآفات والمحن والفتن إلى خلق الله تعالى، فمن أحياه الله رماه بالموت، ومن أصحه رماه بالسقم، ومن سره رماه بالحزن، فلايزال كذلك إلى يوم القيامة، وفي كل يوم ينقص سلطانه حتى لا تبقى له قوة. فإذا كانت القيامة ذهب سلطانه، وخمدت نيرانه، وزالت قوته، واضمحلت قدرته؛ فيطرحه في الجو، والجو ظلمة ليس لها حد ولا منتهى، ثم يجمع الله تعالى أهل الأديان، فيحاسبهم ويجازيهم على طاعة الشيطان وعصيانه.
وذكر الشهرستاني أن أصل ديانة المجوس تدور على قاعدتين اثنتين:
إحداهما: بيان سبب امتزاج النور بالظلمة.
والثانية: بيان سبب خلاص النور من الظلمة، وجعلوا الامتزاج مبدأً، والخلاص معادًا.
بقي هذا البيت لابن عبدالمحسن:
 

يا نسمهْ داعبي شعره

وردي لي شذى مِنَّهْ

وقولي لهْ عن اخباري

وجيبي لي الخبر عنهْ

 
أقول: لو أن الشاعر نَكّر "الخبر"، فقال: وجيبي لي (خبر) عنه، لكان أبلغ وأدق في إصابة المعنى. فإن الخبر إذا كان معروفًا فما الحاجة لطلبه، وما الفائدة المرجوة من الاستعلام عنه بعد معرفة كُنهِه؟ وإنما تمس الحاجة للخبر المجهول؛ وهنا يحسن التنكير. فالعاشق المشتاق يكتفي بأدنى خبر عن معشوقه يطمئن به، وتسكن نفسه إليه. إلا إذا قلنا إن الألف واللام في "الخبر" للعهد الذهني؛ أي ائتني بالخبر الذي سألتك أن تؤديه لي عنه. ومع هذا يظل تنكير الخبر أرجح وأدق وأصوب من تعريفه للأسباب التي تقدمت. والله وحده من يعلم.

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً