قبل سنوات خلت كان واقع الصحافة الورقية هنا غير الذي صرنا عليه اليوم، إذ إنه كان مختلفًا اختلافًا كبيرًا، فكانت الصحافة الورقية متسيدة المشهد وصاحبة الحضور الفعال.
ومن عوامل هذا التغير والاختلاف في واقع الصحافة بين الأمس واليوم، والذي انعكس سلبًا على الصحافة الورقية، كثيرة لعلنا نذكر منها سببًا رئيسيًا، ألا وهو الاجتياح الكبير الذي أحدثته مواقع التواصل الاجتماعي المتنوعة. أي أن الصحافة الإلكترونية طغت بقوة، وكانت المهيمنة وصاحبة الكلمة الفصل، فسحبت الكثير من محبي ومتابعي الصحافة الورقية، حتى إنه استسلمت كثير من الصحف للأمر الواقع، وهو التوقف عن الإصدار الورقي، مع محافظتها على إبقاء مواقع إلكترونية يتم من خلالها الاطلاع على إصداراتها الإلكترونية.
من منا لا يتذكر تلك الصحف الورقية التي كان لها وزنها وثقلها في أوساط الناس عامة، فالكل كان يفرح بملاقاته الأسبوعية معها، لأن أغلبها تصدر أسبوعيًا باستثناء قليل من الصحف الصادرة بالأسبوع ثلاث مرات، ومن حبنا لتلك الصحف كان الكثير منا يحسب الأيام يومًا بيوم، إلى أن يمتع ناظريه مع من يعشق من تلك الصحف، ويكون وجهًا لوجه مع تلك الصحف وما يكتب فيها من كتابات، فمثلًا تلاقي واحدًا ينتظر بشغف قراءته لأحد الكتاب في صحيفة بعينها، وآخر ينتظر كاتبًا آخر بصحيفة أخرى، وهكذا أدمن الكثير على متابعة كتابهم المفضلين لديهم.
ومن تلك الصحف التي علقت في الذاكرة إلى اللحظة، صحف كثيرة، وتبقى "الأيام" في المرتبة الأولى، فهي تمتلك خيرة الكتاب المعروفين بنتاجاتهم الفكرية والإبداعية.
كذلك من تلك الصحف صحيفة "الثوري" و"القضية" و"عدن الغد" و"الطريق" و"الوطني" و"الجنوبية" و"وفاق" وصحف أخرى.
ومن الصحف المحببة لدينا، والتي تصدر من صنعاء صحف كثيرة، لكن تظل صحف بعينها نتابعها بشوق وشغف كبيرين، كصحيفة "المصدر" و"الشارع" و"الديار" و"الوسط" و"النداء" لصاحبها ورئيس تحريرها الأستاذ الكاتب المعروف سامي غالب، وهذه الأخيرة وللأمانة أن الأستاذ سامي غالب كان الأوحد من بين كل الكتاب في الشمال من سخر قلمه وصحيفته النداء لنصرة الجنوب وقضيته العادلة، فكانت هذه الصحيفة خير من ينقل كل ما يعتمل في ذلك الوقت من حراك شعبي ثوري في الجنوب، ومن أجل ذلك كان للصحيفة شبكة مراسلين في أغلب محافظات الجنوب، يوافونها بكل ما يقوم به أبناء الجنوب في حراكهم الثوري التحرري.
ومن كتاب "النداء" أسماء كثيرة، كالكاتب المعروف وصاحب العطاء الإبداعي في تلك الفترة، شفيع محمد العبد، هذا الشاب الشبواني الذي لا تجد صحيفة إلا وتجد له بها مقالًا في غاية الجمال والروعة. وهو بما يمتلك من تنوع في كتاباته خصوصًا الكتابة في الشأن الرياضي، أعطي له الإشراف والتحرير للصفحة الرياضية بالصحيفة.
وهذان الاثنان؛ الأستاذ سامي غالب بخبرته في بلاط صاحبة الجلالة، وقلمه الرشيق واللاذع، وامتلاكه جراءة الطرح، والأخ شفيع، شكلا ثنائية رائعة مع بقية الكتاب والمشرفين على بقية الصفحات بصحيفة "النداء"، وهذا التجمع الذي ضم كوكبة لامعة من الكتاب المرموقين، هو من يستدعيك للقراءة والمتابعة لنتاجات هؤلاء المبدعين المتنوعة وذات الجمال الأخاذ، وهذا مكمن وسر النجاح لصحيفة "النداء".
ضف إلى ذلك أن هناك كتابًا كثرًا يتحفوننا بكل ما يشدك كقارئ ومتابع، ليس بوسعنا الدخول في ثنايا تفاصيل كتاباتهم، لكن لا بأس من ذكر بعض الأسماء المهمة من أصحاب العطاء الظاهر والمتميز: منصور هائل، ماجد المدحجي، عبدالباري طاهر، هلال الجمرة، نبيل قاسم، جمال جبران، إلهام مانع، هدى العطاس، أروى عثمان، وكتاب آخرين... هؤلاء جميعًا بكتاباتهم حافظوا على جعل "النداء" تنافس كبريات الصحف، وتلاقي المتابعة والاهتمام من القراء على مختلف مشاربهم.
بقي أن نقول إن تلك الفترة على ما فيها من جبروت الهالك عفاش بنظامه الدكتاتوري، إلا أنها تعتبر مقبولة في أشياء كثيرة قياسًا على ما نحن فيه اليوم من فقدان للبوصلة والهدف، وضياع كثير مما قدمناه وخسرنا من أجله الشيء الكثير لكي ننعم به بعد تلك الخسارات، وها نحن كما نرى أنفسنا وكأننا مازلنا في البدايات وفي المربع الأول.
إنها يا سادة مرحلة التخبط والإنهاك في ظل وجود كماشة التحالف والشرعية العفنة التي لم نقدر على ابتلاعها وكفى.