فقدنا إنسانًا ومسؤولًا نزيهًا وعظيمًا. المناضل الصلب شرف قاسم.. نلتقي في العزاء في عدن التي عشقها حتى النخاع. يوم مات أبي اتصل بي إلى مصر، يعزيني. كان صوته مغصوصًا وهو يهديني.. يعرف أبي حين كان يدرس في كلية بلقيس.. الوحيد الذي لا يتآمر على الرفاق، بل كان الموفق بين الجميع حين تحتدم نقاشات وحوارات وخلافات وجهات النظر.. كان في منتدى الجاوي الثقافي روح المكان.. كان الحصيف البشوش رغم الحزن والأسى على واقع ما آلت إليه الحركة الوطنية.. ما استطاعت السلط المتعاقبة شراءه، سواء قبل الوحدة أو بعدها.
كان لا يهمه سوى الأخلاق والإخلاص في عمله، وقبل ذلك كله الالتزام الأخلاقي بأن السلطة مسؤولية، وليست فرعنة أو هنجمة.. يشهد له الجميع حتى خصومه السياسيون، حين كان مسؤول أمن عدن، وحين كان مستشار وزارة الداخلية العفيف الحكيم، وحينها كان العليمي الذي تحول من الناصرية إلى المؤتمر، هو الوزير. ومع ذلك، رغم كل محاولات إقصائه عن المشورة من هوامير الداخلية، ومعظمهم حينها يستلذون بطائفتهم، إلا أن العليمي يحسب له وعيه بما تمثله استشارية العم شرف قاسم. أما في أيام العمل السري فيشهد له الرفاق ببذل الغالي والنفيس، مع أسر رفاقه، وهم في المعتقلات.. كذلك لم تستهوه المطابزات والمحارشات، ما فرض احترامه على الكل.
عني شخصيًا له في القلب عرش. ما رأيت جبلًا يمشي على قدميه كشرف قاسم، بل وفي عز الانكسارات والخيبات والفقدانات الوطنية. سيرة عطرة خلفها وراءه.. سيرة الحمادي العدني الصنعاني.. سيرة اليمني المتسق مع يمنيته العالية الشموخة.
أعترف أنني بكيت بنبأ وفاته، فلمن يكون البكاء والأنذال يتكاثرون من كل جانب. كنت أرتاح وأنا أرافقه بسيارته حاملًا لرئيس التحرير في "الثوري"، وكان يزوره، بروفات العدد كي يوقع عليها، أو حين يراني بشارع هائل، فيوقف لي ويوصلني.
كانت ذكرياته عن الحركة الوطنية منذ الكفاح المسلح، زوادة حقيقية بلا ادعاء ولا باطل.. يستقبل الجميع كأنه والد الجميع.. قضى حياته أعزل كشهيد. كان الحكيم الحميم المستبصر، بل والداهية الأخلاقي.
من الصعب الكتابة عن عمنا شرف.. من الصعب لأنه أنصف الناس مسؤولًا ومناضلًا، بل ومثقفًا عضويًا.. روايات جمة أعارني إياها، الدكتور زيفاجو أبرزها. كان يصادق عليه الجميع لبسالته وشجاعته. مرة قال لي الراحل الكبير زين السقاف إن شرف قاسم هو العنوان الأخير من جيلنا في الكبرياء والعصامية. لن أقول وداعًا، وإنما سأقول مثلك لا يرحل.