"أبو مشتاق"، اشتقتُ لك كثيرًا. ها أنذا بعد سنواتٍ طويلةٍ أكتبُ عنك ولك في الوقت نفسه، منذُ اللحظة الأولى التي اكتشفتُ فيها صوتك لأول مرة. لقد مرّ ربعُ قرنٍ من الزمان. هل تصدق ذلك! وأنا طفلة في تسعينيات القرن الماضي، سمعتُ أغنيتك "أعز الناس"، ومن حينها صرتُ أسمعها كثيرًا، طويلًا وعميقًا. كيف لطفلةٍ صغيرةٍ لا يتعدى عمرها العشر سنوات، أن تفهم كلمات هذه الأغنية وبعمق؟ هل كان ذلك ذكاءً متقدًا في حينه، وها هو بالمناسبة يتلاشى تباعًا كلما تقدم الزمن. أم هي ظروف الحياة وقتها، والتي جعلت لكل حدثٍ ما تعيشه- شخصٌ عابرٌ، موقفٌ أو أغنية كهذه- وقعًا ساحرًا وخاصًا جدًا يظل للأبد؟!! حقًا، لا أدري!!
الفنان محمد سعد عبدالله (حساب باسم الفنان على تويتر)
لكني أتذكرُ جيدًا المكان الذي رافق هذه الذكرى، وهو سيارة والدي (كراسيدا بيضاء)، الحاضنة دومًا بقايا القات وأعقاب السجائر، والمكتظة بصحفٍ وأوراق وأشرطة كاسيت لجلالة الملك فيصل علوي ولك أنت أيها الأسطورة محمد سعد عبدالله. أُعيد سماع أغنيتك هذه في كل مرحلة من عمري، وتأتي ذكرياتها بوقعٍ آخر مختلف جدًا، حتى في هذه اللحظات التي أكتب فيها هذه الرسالة إليك، إذ اسمع الاغنية بوقعٍ مختلفٍ ، إنما لا أخفيك سرًّا في الحقيقة أن الوقع الأول والذكرى الأولى يظلان الأكثر عمقًا والأشد تأثيرًا على الإطلاق.
الفنان محمد سعد عبدالله (حساب @musicMSA على تويتر)
صباح الثلاثاء 16 أبريل/ نيسان 2002، لفظت أنفاسك الأخيرة في مستشفى الجمهورية بعدن. كيف للجسد الذي عاش باعثًا للحياة، للشفاء، أن يقاسي ويلات المرض وحيدًا؟ غادرنا جسدك فجأة، لكن روحك لا تزال عالقة( لا، فبالأصح مستوطنة) بداخلنا وقد احتلت( لا، فبالأصح حررت) قلوبنا ونحن نواجه معها بشجاعة ارتياب الزمان وغدره. لقد قدمتَ للفن الكثير، وصنعت بنفسك ولنفسك ولنا مدرسة مائزة برعت فيها بشتى ألوان الأغنية اليمنية. ما الذي قُدم لك بالمقابل؟ لا شيء.. لا شيء سوى الكثير والكثير من الجحود والنكران.
أنت الذي وحّدت الإنسان والأرض والفكر والجغرافيا والروح والعشق والحنين رغمًا عن أنوفنا جميعًا. احتضنت هذه المسافة الممتدة من حضرموت إلى عدن، لحج نحو صنعاء. غنّيت وتغنّيت بروحٍ الحب، العشق والإنسان. أتذكر الآن بابتسامة كل السنوات التي كنتُ فيها أشدو بأغانيك عدا الوحدوية منها: "وحدويون ولا في مجتمعنا شاذ ولا فينا انفصالي"، يا إلهي كم كنت أكره هذه الأغنية رغم عشقي الخالد لك. لكن الاستماع لها كان مربكًا لروحٍ انفصالية النزعة نزقة الثورة منذ سنوات طويلة ممتدة.
أهو طيش الثورة أم صدقها أن أشعر وقتها أن مجرد الاستماع لأغنية كتلك خيانة لمعتقدي السياسي؟ هذه الرومانسية الثورية المفرطة دفعتُ ثمنها باهظًا كهذا الشعب البائس أمام من كذبوا علينا بثوريتهم، وباعوا القضية، وتسلقوا على ظهورنا المقسومة بالخيبة والخذلان. كيف لبساطتنا الساذجة جدًا أن نشعر بالارتباك والانزعاج من أغنية لفنانٍ نعشقه حد الثمالة؟ "احترت في ناس" كيف لهذا الموت البشع لضمائرهم؟ وهل "لا بد من يوم عقلك يردك"؟ يا لخيبتنا كشعب!!
محمد سعد اثناء غناءه على احد المسارح (شبكات التواصل)
ها هي عدن اليوم مدينتك مدينة "الضوء الشارد"، تفتقدك جدًا، وهي غارقة في الظلام. وها هي لحج مهدك الأول، منسية منذُ زمن، وخارج حدود الحياة. بكلها اليمن تفتقدك. تفتقد صوتك الشجي، إحساسك المتفرد، وإنسانك الخلوق النبيل. تفتقد الجمال البسيط العميق، السهل الممتنع للفنان المتكامل شعرًا ولحنًا وصوتًا. كنتَ إنسانًا فارقًا يجسد بتحضره دهشة الجمال والألق للتاريخ العريق للفن اليمني. أليس الإنسان اليمني هاوٍ وغاوٍ كل جمال رغم حيرته وبؤسه وانهزامه للتو؟ ما أحوجنا جميعًا لصوتك؛ صوت الدهشة والبهجة والحب ودفق الحياة!
هل حُلمنا لعدن (المدينة والمدنية) أن تعود يومًا سيتحقق، أم أصبح حلمًا باهظًا لا نجرؤ على دفع فاتورته مجددًا؟ هل ستبقى عدن دومًا رغم أنف الجميع بلادك "بلاد الثائرين"، وجذوة الثورة فيها تخبو، لكنها لا تموت؟ هل ستسمح لنا أن نغني على طريقتك "خلاص اللي مضى ما عاد يرجع لا بكا ينفع ولا شكوى تفيد"، أم سيباغت عدن زمن يليق بها حقًا ويغني لها بعالي الصوت "مد لي يا زين يدك وأنا بامد لك يا زين يدي"، فتعبر معه بسلام هذا المنحدر الوعر، وتصعد هذه الهاوية السحيقة على أنغام "ماشي علي لوم" لو أفرطت في حب الحياة وتشبثتُ بها. فعدن وإن وأدوا عدنيتها قسرًا، لا تموت تحت الأرض، تبقى حية، تُبعث كطائر الفينيق الأسطوري الذي يولد من جديد من رماد جسده، فلا حال يدوم؛ وهذا وعد الزمان والتاريخ، ووعد عدن لنا، وعدن حرة و"وعد الحر دين".
هل تتمنى العودة لمدينتك هذه الأيام؟ أنت مرهف الحس والشعور، ونحن محبوك نخشى عليك جور الألم والمعاناة. فهذه المدينة لم تعد مدينة الحب. ها هو الحب فيها قد أصبح جرمًا، والموسيقى حرامًا، والشوق ذنبًا والذئاب تحيطنا من كل جانب. هل ترغب في العودة حقًا لتصدح لها ولنا ولبحرها "الصبر طيب" و"قلبي فوش يا ماصبر"؟ هاهي تشكو من " لهيب الشوق" وتنادي دومًا " ردوا حبيبي وروحي". الأرض السعيدة هل ستعود كذلك يومًا ما؟ " يا سعيدة ذا قليل الأصل غشاش غدربش واستلم دفعش ومهرش يا سعيدة استأمني ما دمت جنبش".
الفنان محمد سعد عبدالله(شبكات التواصل)
يا "بن سعد"، أنت ملحمتنا، أسطورتنا وسرديتنا الصادقة الحقيقية جدًا في بلد الخرافات والوهم. في خضم الموت والحرب والدمار والكراهية، سينساب صوتك شجيًا، صوت المحبة والإنسانية، ليرمم أرواحنا المنهكة. نحن البسطاء جدًا نتمسك بك، نتمسك جيدًا بكل الذكريات التي صنعتها لنا وخلدتها أغانيك. نحن الذين تسعدنا منك "كلمة ولو جبر خاطر"، وأنت جابر قلوبنا ومشاعرنا، ولن نسمح لأحد أن ينتزع منا وعنا ذاكرتنا وهويتنا العاطفية المعجونة بك. ستتناقلها الأجيال رغمًا عنهم، سنرضعها أطفالنا ونربيهم ليحفظوها منذ البدء في أعماقهم. يكفيهم ما قد سرقوه، لقد سرقوا منا كل شيء.. كل شيء.
سرقوا وطنًا بأكمله، لم يبقَ لنا منه سوى أحلام ممزقة. لكن لن يسرقوا الأمل والحب في قلوبنا. نحن نحب الحياة، وباقون مهما امتلأت النفوس بمشاعر البؤس؛ لكنه الحب الذي أشجيتنا به، ولسنوات طويلة، سيعود، ونهرب إليه، نلوذ به ونحتمي من لهيب الشمس تحت هرمه الشامخ. ومهما كسرتنا اليوم قلة الحيلة، غدر الزمان، وتساؤلات وحيرة "غريبة يا زمن المخلصين تغدر بهم وغريبة يا زمن الغدارين تخلص لهم"، لكن لا محالة يبقى صوتك حاضنًا لأعماقنا، مربتًا على أكتافنا بحنية، هامسًا فينا بحب "اصبر على بلواك مهما الصبر طال لا بد ما تفرج ويحللها ألف حلال"، ونحن نشدو معك ولك بالمقابل: "مابا بديل" يا "أعز الناس".